علماء "نوبل" دراويش الإنسانية

17 أكتوبر 2017 - 15:11

تعاد الحكاية كلّ عام. تظهر التتويجات تباعا. أسماء مجهولة لدى عموم الناس. أعمال لا تتحدّث عنها الصحف والمجلّات والمواقع الإلكترونيّة. تُذكر من باب الأخبار السريعة عادة. وحدها المجلات المختصّة محدودة القرّاء، مهما كثروا عددا، تذكرهم. أفكارهم واكتشافاتهم أهمّ من أشخاصهم وأسمائهم.

باحثون في الكيمياء والفيزياء والاقتصاد والطب والفيسيولوجيا تظهر أسماؤهم وأعمالهم في الأخبار ثمّ في الأغلب الأعمّ يختفون وينساهم الجمهور. لا نجوم في العلم. هم أسراب من النمل العامل بجدّ وتجلّد: تنقّب وتستفهم وتستأنف على السابق، تفترض وتتصوّر وتتخيّل، تفحص وتجرّب وتختبر وتعاود النظر.

إبداع لا نعرف دلائل إعجازه وأسرار بلاغته، ولكنّنا نلمس بعض نتائجه لمسا في حياتنا العمليّة اليوميّة، وفي تصوّراتنا وإجاباتنا الممكنة عن أسئلة الوجود الكبرى.

هؤلاء هم نجوم “نوبل” السائرون، في أغلبهم، إلى النسيان والعائدون بسرعة بعد التكريم إلى أبراجهم العاجيّة ومختبراتهم في زهد وتبتّل ليواصلوا ما بدؤوا من بحوث تنتظر الاستكمال. ليس للمعنى عندهم من حدود يقف فيها، فوراء الحدّ حدٌّ ووراء الفكرة المعلومة أفكارٌ أخرى مجهولة. فكلّما فتحوا بابا جديدا وجدوا أمامهم متاهة تنتظر الاستكشاف. ما نقص الجهل من جهة، إلّا اتسعت رقعته من جهات أخرى. هذا هو منطق العلم الجادّ وقد طلّق المطلقات وانتشى بلعبة البناء والهدم ارتقاءً بالتصوّرات إلى درجات أعلى فأعلى.

لو سألت عن المتوّجين بـ”نوبل” في غير الأدب والسلام هذه السنة مثلا، فالأرجح أنك لن تجد الإجابة إلا لدى بعض المختصّين في هذا الفرع العلميّ أو ذاك. فقلّما كان في المتوّجين فرد مبدع وحده. إنّه عقل جماعيّ كونيّ يشتغل بأسلوب وإجراءات مصطلح عليهما بلغة كونيّة هي بعض من ذكاء الكائن البشريّ وقد تكثّف. لديهم إحساس بالانتماء إلى كلّيّة تاريخيّة تجسّدها مدوّنة من قضايا العلم يعرفون ما ينقصها وما عليهم أن يضيفوا إليها، ويعملون على استدراك ما يفتقر إلى استدراك واختبار ما يحتاج إلى اختبار بعيدا عن الثرثرة واللغو والادّعاءات والنرجسيّات الزائفة.

نعم، هم يختلفون. لكنّ وحدة لغتهم ومناهجهم وأساليبهم تعلّمهم إدارة الاختلاف بينهم على نحو عقلانيّ مبدع مخصب.

نعم، هم خطّاؤون كثيرو الزلل، ولكنّ الخطأ عندهم مفيد نافع يعلّمهم الصادق من أقاويلهم العلميّة، فيصحّحون عثراتهم وسقطاتهم ليتعلّموا من الأغلاط الجديدة. إذ لا يستقيم لهم عمل إلّا بالنقد الذي يتعلّمونه تعلّما لتتطوّر نظريّاتهم وتزكو أفكارهم. فمن أعاجيبهم أنّ الفكرة لا تكون صائبة إلا إذا أمكن دحضها والقول لا يكون صادقا إلا إذا أمكن تكذيبه.

هؤلاء هم دراويش الإنسانيّة المنعزلون عن الجمهور يتأمّلون الكون والمادّة والإنسان زاهدين مترهّبين لا ينتظرون جزاء ولا شكورا. ضرب من الاعتقاد في ما يفعلون مع مسافة لازمة لفهم أسرار الكون والكائن.

لا شكّ في أن هؤلاء الدراويش ينتشون روحيّا كلّما وجدوا جديدا يضيفونه أو بديلا عن قول علميّ استقرّ وبانت لهم حدوده. إنّها نشوة الرقصات الدوّارة بين النظريّات والاختبارات والتجوال في غياهب المادّة التي يعالجون ويتدبّرون.

هؤلاء هم طائفة العلماء الذين يفنون العمر بصبر وأناة كخلايا النحل العامل دون أن يعرف من سينال متعة العسل. فليس يعنيهم ذلك إلا قليلا.

وللجمهور، لنا جميعا، أن نتعلّم منهم معاني الإنسانيّة الرحبة العميقة. سواء ما كان منها تواضعا حقيقيّا أمام تعقّد الواقع والجهل الذي ينمو مع كلّ معرفة جديدة، أو ما كان نكرانا للذات، أو عملا جماعيّا أو جدلا مخصبا وتعلّما من الأخطاء أو ما كان بالخصوص إخلاصا في العمل.

نعم، ليسوا ملائكة. فالبحث العلميّ اليوم، مهنة لها شروطها الاجتماعيّة وقيودها ورهاناتها المادّيّة والرمزيّة وصراعاتها الظاهرة والخفيّة ومنطق السوق الذي يحكمها، كما يحكم سائر أنشطة الإنسان في عالم هيمنة رأس المال وجشعه.

هؤلاء هم الدراويش الذين يتقدّمون بالبشريّة، مأخوذين برغبة عارمة في الكشف والاكتشاف مخطوفين بالأسرار وراء الأسرار.

* روائيّ وأكاديميّ من تونس

شكري المبخوت

عن “العربي الجديد”

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي