وطنية زائفة

16 نوفمبر 2017 - 13:27

هل مظاهر الوطنية المفرطة، التي أصبحت تجتاح الشوارع والملاعب، بمناسبة أو بدونها، عفوية ونابعة من تفتق وعي جمعي، بقي ثاويا في لاوعينا، ثم انطلق فجأة بعدما فطنا إلى أن سرّ أمنِ وازدهار المغاربة يكمن في التحافهم بالعلم الوطني ورسمه على الجباه والخدود، والصراخ بهستيريا باسم الوطن والملك؟
وهل تستقيم الوطنية بدون مواطنة، بالشكل الذي يحول أحيانا فرحة الفوز أو لوعة الخسارة في مباراة لكرة القدم، إلى حرب أهلية في الملاعب والشوارع، مثلما حدث في شوارع بروكسيل بعد فوز المغرب على الكوت دي فوار، مؤخرا، أو مثلما حدث في أبريل 2013، عندما أحدث مشجعون قادمون من الرباط رعبا ودمارا حقيقيين في أهم شوارع الدار البيضاء التي نزلوا يتجولون فيها مثل جيش من التتار، فحطموا سيارات وحافلات وقاطرات الطرامواي ومحلات تجارية، وعنفوا المارين دونما سبب. وقد اعتقل حوالي 300 من هؤلاء “التتار”، قبل أن يتم تمتيعهم بالعفو، في حين كان، حينها، شباب، احتجوا سلميا بشعارات اجتماعية وسياسية يقبعون في السجون. أو مثلما حدث في شتنبر 2014 عندما خرب جمهور مباراة الجيش الملكي والدفاع الحسني الجديدي، ملعب الأمير مولاي عبدالله، واحتلوا أرضيته وعاثوا دمارا في مرافقه، وتعنيفا في رجال الأمن، دون أن تسقط مع فوق أكتافهم الأعلام الوطنية التي يلتحفون بها؟
لماذا تبتعد الوطنية الجديدة عن تلك التي تسلح بها الوطنيون الأوائل، حين جعلوا من الوطنية إيديولوجيا للنضال من أجل التحرر كما من أجل الديمقراطية، دون شوفينية هوياتية، بحيث وقفوا ضد فرنسا المستعمرة، وفي الوقت نفسه إلى جانب فرنسا الأنوار؟ ولماذا تقترب (الوطنية الجديدة) من تلك التي عبّر عنها فرانسوا ميتيران بقوله: “Le nationalisme, c’est la guerre”؟
الوطنية الجديدة هي وطنية عُصابِية، يتم التحكم في شبابها المحبط داخل مختبرات السلطة التي توجهها، تذكيها وتخمدها بمقدار، حسب الغرض والمناسبة.
فعند ظهور الإرهاصات الأولى لحزب الأصالة والمعاصرة في 2008، تم إطلاق مفهوم “تامغربيت” لضرب عصفورين بحجر واحد: الحركة الإسلامية القادمة من الشرق، والحركة الديمقراطية التي تتبنى القيم الكونية (الغربية). وعندما تأكد أن حزب العدالة والتنمية مازال قادرا على سحق معارضة إلياس ولشكر وشباط، في 2015، صدرت الأوامر لرجال السلطة ومشتقاتهم السياسيين، لرفع شعار “الوطنية” في مواجهة “الأخونة”، وهو ما بدا واضحا في مسيرة “ولد زروال” التي مشى فيها الشيوخ والمقدمون جنب جمعية رفاق بنعيسى آيت الجيد، “من أجل إخراج بنكيران من الصحرا ديالنا”، كما ردد أحد أشهر المشاركين في المسيرة.
فحتى بالنسبة إلى المعارضين الجدد من جيل ما بعد 20 فبراير، سقطوا في فخاخ معنى الوطنية الجديدة، حيث تجد الواحد منهم، مثل الزفزافي والمهدوي، كلما ابتعد عن انتقاد الحكومة واتجه لانتقاد الحكم ومحيطه، إلا وأردف قائلا، دون مناسبة: “أنا وطني وملكي”!
عندما كان للسياسة معنى في هذا البلد، كانت الدولة “اللاديمقراطية” تحتكر كرة القدم، والرياضة بصفة عامة؛ فكان الحسن الثاني يتصل بمدرب المنتخب الوطني ويملي عليه خطة اللعب ويسبغ على اللاعبين عطفا خاصا. بالمقابل، كانت أحزاب المعارضة تحتكر الثقافة: أساتذة الفلسفة والعلوم الإنسانية، اتحاد الكتاب، الأندية السينمائية، مسرح الهواة… وكنا أمام مشروعين واضحين: مشروع يُعنى بالجسم ومشروع يُعنى بالعقل؛ وحتى عندما أراد المعطي بوعبيد، وكان برلمانيا اتحاديا جماهيريا، أن يجمع بين الكرة والسياسة، دارت به دوائر المخزن وأسست له حزبا إداريا ملأته بمناضلين يصفقون ولا يناقشون.

من يذكي نزعات الوطنية الجديدة، الزائفة، يعرف قبل غيره بأنها قد تكون، مؤقتا، مُسكّنا لمرض عضال اسمه البطالة والتهميش وخنق الحريات الحقيقية، لكنها لن تكون دواءً شافيا للمرض وجوابا حقيقيا عن الأزمة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي