عبد المولى الماروري يكتب: العفو الملكي بين قراءتين

17 نوفمبر 2019 - 21:30

أمام ازدياد منسوب الاحتقان الاجتماعي، وانسداد الأفق السياسي، وارتفاع معدل التراجعات الحقوقية، أمام هذه الأوضاع المأساوية كلها لابد أن نمسك بالأمل ونتسلح برؤية عقلانية نحو المستقبل، ونستعمل خطابات إيجابية تحمل معها حلولا واقعية ناجعة لحالة الاحتقان العام التي تسيطر   على الساحة المغربية، سياسيا واجتماعيا وحقوقيا ..

مناسبة هذا الكلام هو ظهور أصوات متباعدة فيما بينها تتناول هذا الوضع ، بين أصوات تدعو إلى التيئيس من أي حل أو انفراج وتدعو إلى المزيد من التصعيد، وهي آخذة في الاتساع والانتشار، وأصوات تدعو إلى مزيد من الضبط الأمني واعتبار كل الاختلالات التي عرفتها بعض الملفات ذات الطبيعة السياسية أو الاجتماعية هو تطبيق سليم للقانون، وأصوات أخرى بدأت تظهر مؤخرا تدعو إلى الحكمة والتعقل وإلى إحداث إنفراج عام لمصلحة الوطن.

في هذا السياق نشرت جريدة أخبار اليوم في عددها 3039 ليوم الأربعاء 13 نونبر 2019 مقالا مترجما للأستاذ محمد مصباح الذي يتساءل فيه هذا الأخير عن خلفيات العفو الملكي عن الصحفية هاجر الريسوني ومن معها، منتهيا في تحليله إلى ثلاث أسباب كانت وراء هذا العفو، الأول إنهاء عزلة النظام وتجنب استمرار الهجمات الإعلامية ضد الممارسات التضييقية التي ينهجها، والثاني إنهاء حالة الاحتقان والغضب العام المتزايد ضد الدولة بشأن انتهاكاتها المتزايدة ضد الحريات الفردية والعامة، والثالث محاولة القضاء على أي محاولة التفاهم والتقارب بين العلمانيين والإسلاميين .

والسؤال الذي يتبادر إلى ذهني بكل عفوية، ألا يمكن إعطاء تفسير آخر للعفو الملكي غير الذي اعتمده الأستاذ محمد مصباح؟

لقد عاش المغرب في ظل حكم محمد السادس العديد من التحديات السياسية والأمنية، وواجه الشعب المغربي حالات متفاوتة من الاحتقان الاجتماعي، والانسداد السياسي، وحالات أخرى من الانفراج والتوافق، وكلما ازداد منسوب الاحتقان والتوتر إلا وسارع النظام إلى نزع ذلك الفتيل بقرارات شجاعة تهدف إلى التهدئة والتوافق..

لقد راكم الملك محمد السادس عبر سنوات ممارسته الحكم طيلة عشرين سنة الماضية ما يجعله ملما بحالات المغرب وواقعه، وما يناسبه من حلول وخيارات تحفظ لبلده الاستقرار السياسي والاستتباب الأمني.. خاصة ما تجارب الربيع العربي الأول الذي انطلق مع ثورة الياسمين ، وما يزال مستمرا في دول العراق والجزائر ولبنان.. واستقر على أشكال مختلفة عند العديد من الدول العربية، من ردة في مصر، وحرب أهلية في ليبيا واليمن، واستقرار نسبي في تونس والمغرب.. مما يعني أن الدول العربية ما تزال تقف على رمال متحركة، ولم تقف بعد على أرضية صلبة تحفظها من هزات سياسية واجتماعية محتملة..

إن الدول التي تعيش في ظل استقرار سياسي وأمني، وفي إطار نظام ديمقراطي تعددي، يعترف بحقوق المواطن السياسية والمدنية والاقتصادية، ويحترم حقوق الإنسان، وصلت إلى ذلك المستوى من الوعي والنضج، وأدركت أهميته الاستراتيجية، واتفقت مكوناته السياسية وشرائحه الاجتماعية على الحفاظ عليه إلا بعدما عاشت وعانت ويلات الاضطرابات السياسة والانتهاكات الحقوقية، والحروب الأهلية، والفوارق الاجتماعية، وأيقنت أن خلاصها وحلها لا يكمن إلا فيما هي عليه الآن من ديمقراطية وحرية وحقوق.. واحترام القانون والمؤسسات المنتخبة والخيارات الشعبية الحرة..

ألا يمكن أن نفسر قرار العفو الملكي على أنه استحضار لمصلحة الوطن الاستراتيجية والواسعة، بعيدا عن التكتيكات الضيقة والقصيرة؟ ألا يمكن أن نفسر إسقاط المتابعة برمتها على هاجر الريسوني ومن معها على أنها إصلاح جريء وشجاع للأعطاب المسطرية والقانونية والقضائية التي عرفها ذلك الملف؟ وقد ظهر ذلك جليا في نص البلاغ الصادر عن وزارة العدل. ألا يمكن أن نحمل هذا العفو على أنه استراتيجية واسعة ليشمل حالات أخرى اتفقت الحركة الحقوقية الوطنية والدولية، والكثير من رجال القانون والسياسة على أن ملفاتها هي الأخرى (أي تلك الحالات) عرفت أعطاب قانونية ومسطرية وقضائية كثيرة؟

وفي هذا الإطار ظهر على المسرح الإعلامي والحقوقي العديد من الوجهاء والسياسيين الذين يدعون إلى المزيد من الانفراج الحقوقي، وآخرهم سياسيون ومثقفون ووزراء سابقون مثل عبد الحق التازي ومحمد برادة وحسن نجمي، وقبلهم النقيب والوزير السابق امحمد خليفة وخالد الجامعي غيرهم كثير ..

لن يختلف اثنان على أن هؤلاء الرجال يحملون من الوطنية الصادقة والحكمة البليغة التي راكموها عبر تاريخهم السياسي ما يجعل دعوتهم الأخيرة محل اهتمام وموضوع عناية، والنظر إليها على أنها صادرة من رجال حكماء متعقلون ومخلصون لهذا الوطن.. ولولا حرصهم على استقرار هذا البلد وغيرتهم على سمعته ومكانته بين الدول ما تجشموا عناء اتخاذ هذه المبادرات والدعوة إليها ..

وبالعودة إلى بلاغ العفو الصادر عن وزارة العدل، نجد في مقدمته أن هذا العفو جاء في إطار الرأفة والرحمة المشهود بها للملك، فهل من الضروري وفي إطار التفسير السياسي الجاف أن نجرد الملك من جانبه الإنساني العاطفي في اتخاذ قرارات مثل هذه؟ إن الملك في نهاية الأمر، وابتداء هو إنسان، تحركه جوانب إنسانية وعاطفية، ويتفاعل نفسيا ووجدانيا مع العديد من القضايا الإنسانية والاجتماعية التي عرفها بعض المواطنين في المغرب، فلا يمكن ولا يجب أن تقتل السياسة الجانب الإنساني في الحاكم وتجعله آلة صماء بدون مشاعر.. كما لا يجب أن تغتال الضمير.. وتعمي البصيرة.. ومقدمة البلاغ تؤكد ذلك..

لذلك فإني آمل أن يتحرك العفو الملكي قريبا، وانسجاما مع الوطنيين التاريخيين الذين دعوا إلى العفو على بعض المعتقلين على خلفية قضايا اجتماعية وسياسية، أن يتحرك في اتجاه إنهاء مشكل بعض الحالات العالقة، وأن تتخلص السلطة في أقرب فرصة ممكنة من خمس ملفات مستعجلة ومزعجة، لأنها أصبحت مثل حجر في حذاء مواصلة الإصلاحات السياسية، ونقطة سوداء على الوجه الحقوقي المغربي داخليا وخارجيا.

الملف الأول: هو معتقلو حراك الريف وعلى رأسهم ناصر الزفزافي ومن معه، ويجب أن نذكر أن هؤلاء اعتقلوا أساسا لأسباب اجتماعية صرفة، وهذه هي الحقيقة، وليس بسبب التهم المتابعين بها والمدانين من أجلها، وأحد الأدلة الدامغة على ذلك، هي الإجراءات التأديبية التي أنزلها الملك على العديد من المسؤولين بسبب تأخر مشاريع خاصة بالريف وكانت وراء تلك الاحتجاجات المأساوية.. وإن من شأن النظر لملف حراك الريف بنظرة اجتماعية كما هي في الأصل أن تغير أسلوب التعامل معه أمنيا وقضائيا وسياسيا واجتماعيا، بشكل يحفظ للوطن استقراره وللمواطن الريفي كرامته، وللدولة هيبتها الحقيقية في إطار المقاربة الإنسانية الاجتماعية وليس الأمنية ..

الملف الثاني: هو ملف حميد مهداوي، المتابع بارتكابه جريمة لا توجد إلا في خيال البعض الذين فقدوا بوصلة الإصلاح وارتكنوا إلى الخيارات الأمنية المستفزة لشعور الحقوقيين والوطنيين. فكيف يعقل أن يصدق عاقل أن شخصا مجنونا سيقدم على إدخال دبابات إلى المغرب، وعلى من توصل بهذا الخبر المجنون الأخرق أن يقوم بالتبليغ عنه..؟ إن دخول مثل هذه القضايا الخيالية أرشيف المحاكم المغربية هو إساءة بليغة لسمعة القضاء المغربي وأحكامه في الحال والمستقبل.

الملف الثالث: ملف الصحفي توفيق بوعشرين، الذي توبع وأدين هو الآخر بجرائم لا توجد إلا في الأفلام الأمريكية الهوليودية، كيف يعقل لصحفي مشهور ومعروف بافتتاحياته النقدية الشجاعة، ويرأس جريدة يومية مستقلة، مشهود لها بسعة الانتشار واستقلالية الخط التحريري أن يورط نفسه في هذه الجرائم التسلسلية، جرائم الاغتصاب والاتجار بالبشر ..

لقد أجمع الحقوقيون الموضوعيون، والقانونيون المتمرسون، وسياسيون شرفاء مشهود لهم بالنزاهة والمصداقية، أن هذه التهم هي تهم مستحيلة وجائرة في حق الصحفي توفيق بوعشرين، وأن السبب الحقيقي وراء اعتقاله ومتابعته هو افتتاحيته اليومية وأسلوبه النقدي للسلطة وبعض رجالاتها.. هذا فضلا عن اعتقاله التعسفي الذي أكده العديد من رجال القانون وكذا المقرر الأممي ..

الملف الرابع: هو المتعلق بالدكتور عبد العالي حامي الدين، وهو من أغرب ملفات التي تشهدها ساحة المحاكم في هذه السنوات، متابع بواقعة صدر فيها حكم حائز لقوة الشيء المقضي به، واقعة تقادمت قانونيا ، صدر في شأن شكايتين ولدتا مؤخرا قرارين بالحفظ.. ومع ذلك أثيرت من جديد ضدا على المنطق والقانون، وتجاوزا لمبدأ الاستقرار والأمن القضائي ، مما يؤكد كيدية الشكاية الجديدة والانزلاق القانوني  والقضائي الخطير الذي حرك المتابعة… وهذا كلام خبراء القانون ومتمرسي العمل الحقوقي وفقهاء السياسة المشهود لهم كذلك بالمصداقية والنزاهة والشرف..

الملف الخامس والأخير: ملف المناضل محمد ويحمان المعتقل والمدان مؤخرا على خلفية شجار استدرج له بعد احتجاجه على مشاركة الصهاينة في معرض للتمور.. وكانت هذه المحاكمة هي الأخرى موضوع استنكار الجسم الحقوقي والسياسيين الذين يغارون على سمعة هذا الوطن ..

هذه خمس ملفات لها طبيعة استعجالية ومزعجة للغاية تشوش على الحالة المغربية التي اختار مسؤولوه ركوب قطار الديمقراطية وحقوق الإنسان عن قناعة واختيار، ملفات تسيء إلى سمعة البلد بطريقة مجانية لا فائدة منها ..

إن القاسم المشترك بين هذه الملفات أن أصحابها كانت لهم الشجاعة والمسؤولية لانتقاد الوضع، بطريقة مسؤولة، كل حسب موقعه ومجال اشتغاله واهتمامه.. وإن اختلفوا في التوجهات والمنطلقات، فإنهم عبروا عن انتقادهم بدافع الوطنية الصادقة والحرص الشديد على سمعة وطنهم ومكانته بين الدول والأمم والشعوب، فلا يجب ولا يصح أن يكون الثمن هو متابعتهم بتهم خيالية واعتقالهم وحرمانهم من حقوقهم وحريتهم ..

على المغرب أن يدخل حقبة سياسية جديدة، ومرحلة يقطع فيها مع الاختلالات التي كلفت وتكلف البلاد، سلطة وشعبا، أثمنة باهظة على مستوى استقراره الداخلي وسمعته الخارجية ، وعلاقته بين الشعب والسلطة.. على حساب الاستقرار السياسي والأمني، وعلى حساب مواصلة برامجه التنموية الكبرى، وأهم ورش تنموي حقيقي هو المزيد من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان.. حتى يدخل المغرب نادي الدول التي تحترم الديمقراطية وحقوق الإنسان من منطلقات مبدئية ..

إن المغرب وطن للجميع ويسع الجميع، بالإمكان أن نعيش فيه عيشا مشتركا، رغم الاختلافات والتباينات الطبيعية في كل مجتمع واجتماع بشري متنوع ومتعدد.. إذا تم تأطيرها قانونيا ومؤسساتيا، وفي احترام تام للآخر، مع القطع الكلي والنهائي مع المقاربات الأمنية والاستخباراتية في التعامل مع المخالفين.

ما يزال العفو الملكي آلية دستورية ومؤسساتية وإنسانية لوضع حد لحالة الاحتقان التي تخيم على الساحة الحقوقية المغربية، ومكنة قانونية لإصلاح تلك الأعطاب التي شابت ملفات رائجة الآن أمام محاكم المملكة، وكما أدخل العفو الملكي على هاجر ومن معها البهجة والسرور والفرح على كافة الشعب المغربي، فبالإمكان أن يجدد ويوسع العفو الملكي هذه الفرحة والبهجة إذا شمل أيضا أصحاب الملفات الخمسة التي أشرت إليها ..

وعلى ذلك فإن العفو الملكي سيطبق برؤية استراتيجية واسعة ومستوعبة، وليس بطريقة تكتيكية ضيقة وقاصرة أو انتقائية كما يعتقد البعض..

وإني أجدد الدعوة إلى مبادرة “التسامح الوطني العام” من أجل مغرب مستقر مطمئن وديمقراطي .

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

كريم منذ 4 سنوات

تفسيركم للعوف كإصلاح لأعطاب تفسير خاطئ في نظري لأن الأعطاب كثيرة وممنهجة. فالنظام يستعمل القضاء لإسكات الأصوات والأقلام المزعة. تعتمد السلطة تكتيك " شِي يكْوِي، وشِي يْبُخْ"

التالي