الديمقراطية أو الطوفان...!

17 سبتمبر 2018 - 14:07

ترسخ تقليد الدخول السياسي في الدول الديمقراطية، وذلك لأن العملية السياسية بمختلف مستوياتها الاقتصادية والاجتماعية  والدستورية، تخضع لنوع من العقلنة الواضحة، بحيث لا تصبح فقط، المواعيد الانتخابية وحدها من يحتكر نقاش القضايا الكبرى والبحث في استصدار المواقف والأفكار والالتزامات، لأن حياة سياسية ديناميكية لا يمكن أن ترتهن لدورية الانتخابات التي تبدو طويلة، بالنظر إلى التطورات والمستجدات والمطالب التي يعرفها المجتمع، لذلك تعمل المجتمعات الديمقراطية على صيانة حيوية النقاش السياسي، خاصة وأن الدخول السياسي يتصادف مع وضع القوانين المالية، بما تمثله من إجراءات وتدابير تعتبر من مخرجات النظام السياسي تتمتع بقوة القانون، من حيث الإلزامية والعمومية في التطبيق، وهي إجراءات تحكم السنة المالية بكاملها، كما أنها تكون فرصة لتقييم السنة السابقة. لهذا، فإن الدخول السياسي كتقليد، هو من صميم الممارسة الديمقراطية التي لا يمكن الاطمئنان لها وعنها سوى بقياس حيوية النقاش السياسي المجتمعي، الذي تثيره قضاياها الرئيسة، فعند الدخول السياسي تتحول المجتمعات إلى شكل من أشكال “الأغورا” على الطريقة اليونانية.

هل يمكن الحديث عن دخول سياسي في المغرب؟ الجواب يرتبط هنا بسؤال آخر يتعلق بمن يملك سلطة القرار؟ إذ إن ضعف مساهمة المؤسسات بمعناها الدستوري في عملية صنع القرار، يحول النقاش العام والمطالب الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، إلى مجرد صراخ على حائط مبكى… لا ينتج شيئا في الواقع، بل يعزز العطب البنيوي المرتبط بمبدأ المسؤولية والمحاسبة، فرمادية المسؤولية يقابلها بشكل طبيعي ومنطقي رمادية على مستوى المحاسبة تصل حد الميوعة…، لكن، إذا كان هذا الوضع السريالي الذي يطبع الحياة السياسية بالبلاد يمنع من إنتاج حوار حقيقي بين المؤسسات بعضها بعض، وبينها وبين المجتمع مباشرة أو بصفة غير مباشرة عبر “ممثليه”، فإنه مع ذلك لا يستطيع أن يمنع من طرح القضايا التي ترخي بثقلها على بلادنا حتى لو لم تقابلها حلول. أعتقد أن بلادنا تواجه على الأقل موضوعين رئيسيين سيكون تركهما دون جواب، مخاطرة لا يمكن حصر أبعادها.

الموضوع الأول، يتعلق بواقع نهاية صلاحية النموذج التنموي الذي اعتمده المغرب في السنوات الماضية، وقد جرى الاعتراف بذلك رسميا كرجع الصدى، لما أكده الملخص التحليلي للتقرير الذي أعدته مجموعة البنك الدولي تحت عنوان: “المغرب في أفق 2040″، حيث جاء في الملخص التحليلي للتقرير أنه “يجب على المغاربة في المقام الأول أن يدركوا بشكل جماعي أن النموذج التنموي الحالي للمغرب قد وصل إلى حده. وبالتالي، يجب على البلد الشروع في إعادة تشكيل حقيقية لنموذجه التنموي وإدخال قطيعة متعددة الأشكال على مستوى تصميم وتنفيذ السياسات العمومية”، ويضيف الملخص أنه “في غياب هذا الوعي، بما في ذلك داخل النخب الحاكمة، فإن السياسات الراهنة لن تشهد انعطافا مهما”. مرة سنة كاملة على اعتراف الملك ببلوغ النموذج التنموي المعتمد حده الأقصى، لكن لا شيء حدث، الحكومة لازالت تواصل اجتماعاتها كل أسبوع بصورة عادية لا توحي بأنها تنوي إطلاق نموذج جديد، والذي على الأرجح سيصدر كما هي العادة في صورة تعليمات عبر خطاب، قد تكون منصة البرلمان مكانا لإعلانها في أكتوبر المقبل… وهذا يعني أننا نعيد المنطق نفسه، الذي يحكم اتخاذ القرارات ووضع السياسات؛ المتسمة بالمركزية  المفرطة في قضايا مصيرية من المفروض أن تكون حصيلة نقاش وطني وعمل داخل المؤسسات الدستورية للبلاد على علاتها. الموضوع الثاني، يتصل بتراجع الرأسمال الاجتماعي من خلال سيادة البحث عن الحلول الفردية داخل المجتمع، ولعل عودة قوارب الهجرة السرية والارتفاع الكبير في رغبة الهجرة وشمول تلك الرغبة لفئات واسعة من الطبقة المتوسطة من أطر ورجال أعمال، هو أحد وجوه فقدان الأمل في المستقبل، ما يصور المغرب كسفينة تغرق ويسعى الجميع إلى الفرار منها، هذا التقييم الجماعي غير المباشر لحالة بلادنا، يعتبر الحصيلة الطبيعية لقتل الأمل في المغاربة لسنوات متواصلة، خاصة خلال العشرين سنة الأخيرة التي نظر إليها المغاربة كفرصة تاريخية وانخرطوا فيها بحماس صادق، غير أن الاستهتار بالمسار السياسي والإصلاحات الديمقراطية وتحويل المؤسسات إلى فقاعات فارغة لا ينتظر منها شيء؛ إلى حد أضحى الناس ينظرون إلى المؤسسات التي بدونها لا يمكن الحديث عن الديمقراطية؛ مجرد عبء مالي إضافي… عزز ارتفاع البحث عن الحلول الفردية ما يشكل بداية تفكك الانتماء الجماعي والشعور بمعنى الوطن، وسيكون هذا الشعور أخطر إذا حدثت هزة اجتماعية عنيفة، فالحلول الفردية قد تتحول إلى “غيتوهات” قبلية وطائفية ومناطقية منغلقة…

باختصار، الدولة اليوم، عليها أن تختار بين الديمقراطية أو الطوفان.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي