الفراعنة الجدد

04 أكتوبر 2018 - 20:35

من الأقوال المشهورة لفرعون: « ما أريكم إلا ما أرى، وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ». وقد صارت جملة فرعون هذه تُضرب مثلا لطريقة تفكير الطغاة والمستبدين على مر العصور. وصارت عبارةً تلخص نفسية الحاكم الذي يصل به التسلط والتجبر درجة الاعتقاد أن مكانته الاعتبارية تجعله مؤهلا لشق طريق النجاة أمام الشعب. وكلما اصطدمت حركات المعارضة بحاكم « فرعوني » تذكّره بمآل فرعون الذي فكّر بهذه الطريقة أو تصفه بتقليده. وتطالبه، بالمقابل، بفتح مجال الرؤية ليتسع لرؤى غيره، وترك أمر الهداية وسبيل الرشاد لمن سواه. لكن التاريخ دوّن، أيضا، حركات معارضة تحول زعماؤها إلى فراعنة بعدما وصلوا إلى السلطة. وكل ما حصل هو انتقال من رؤية مستبدة إلى رؤية مستبدة أخرى، ومن طريق « رشاد » مزعوم إلى طريق رشاد مزعوم آخر.

واليوم، مع اتساع مساحة حرية التعبير بالاستفادة من وسائل التواصل الاجتماعي والإنترنت لا يحتاج المرء إلى الوصول إلى السلطة ليكشف عن جينات فرعون التي تعتمل في نفسه. طريقة إدارة النقاشات الخلافية تفضح هوس الإنسان بتحويل رأيه هُو – دون الآخر- إلى « مشترك جماعي » بالقسر والتعنيف المعنوي. القسر في هذه الحالة لا يكون على طريقة النظام في جانبها المادي، لكن يشترك معها في جانبها المعنوي. قد لا يكون بالسجن أو الشرطة والملاحقات، لكن يمكن أن يكون بالحرب الكلامية والإعلامية وحملات الاستهزاء. القسر هنا يكون تعنيفا معنويا عبر الاستهزاء بالآخر المختلف وتبخيسه وتحويل رأيه إلى مادة للسخرية والاحتقار ورمز للتخلف والتأخر والانحطاط، وقد يتفوق أحيانا هؤلاء على النظام في هذا المجال.

يمكن أن أقدم أمثلة عدة بخصوص هذا الوضع. لكن المثال الذي يهمني هنا يخص موجة مشينة على مواقع التواصل الاجتماعي تحاول انتزاع إجماع تحت « التعذيب »، ممن تصدر آراؤهم عن أفكار عفوية إلى حد ما (لا أعني بعفوية خاطئة، وإنما أجعلها مقابلة للآراء الإيديولوجية أو المفكر فيها جيدا). مثلا، إذا كتب أحدهم تعليقا يمدح فيه المغرب ويعبر فيه عن تعلقه بهذا البلد أو يرى فيه أن « المغرب بخير » وظروف العيش فيه أرحم من دول أخرى أو غير ذلك من الأقوال التي تناسب وضعه وطريقة تفكيره وتنسجم مع حقه في التعبير، يتحوّل إلى « عيّاش » و »متخلف » ولا يسلم من حفلات السب والشتم الجماعية التي تقيمها طائفة من المغرّدين والمعلّقين التي تظن أنها وصلت إلى الحقيقة المطلقة.

لنفترض أني لم أوفق في الحصول على عمل يرضيني، واضطررت إلى اقتراض مبلغ صغير، واشتريت عربة وبدأت تجارة صغيرة لبيع الفواكه، وهو عمل لا يجعلني ثريا، لكنه يقيني ذل السؤال، ثم حصل أن صادفت بعض النجاح في تجارتي الصغيرة هاته، وصارت أموري مستقرة نوعا ما، وبدأت أرى أنه رغم الظروف الصعبة جدا في البلاد لم تصل الأمور إلى حد الإفلاس التام والانسداد الكامل، وأنا لم أدرس لا كتب ماركس عن الرأسمال ولا تهمني صراعات السياسيين، ولا أتقاسم بعض أفكار حراك الريف، ولا أرى في الهجرة السريّة حلا، وإنما معضلة، ولدي حساب على « تويتر » أعبر فيه عن « مغربي المختلف » كما أراه، هل من المروءة وفيض العلم سبي ولعني والتشهير بي؟؟ ولنفترض أني أتوفر على حظ من علم السياسة والفكر وأرفض فكرة « كلشي خايب » وأرى أنه لا، ليس كل شيء سيئ، بأي حق يصنفني غيري في خانة التخلف؟ لتُصنّف غيرك في خانة التخلف لا بد أن تحمل شعورا داخليا بأنك في ضفة التقدم، ويعني ذلك أنك مغرور، والغرور تخلّف أشد.

مثلما نتهم النظام أحيانا بوضع الجميع في سلة واحدة حين يبدأ حملاته الهوجاء، كذلك بعض « المناضلين » يقودون حملات هوجاء على كل مخالف لآرائهم، وكأن آراءهم صارت هي الحقيقة النهائية وسبيلهم هو سبيل الرشاد. النظام في المغرب مليء بالأعطاب ويرتكب أخطاء سياسية جسيمة، لكن لا بد من تمييز النظام السياسي عن الوطن والتراب، وترك الحرية للناس في اقتراح الحلول وعدم حصرها في حل الحقد والقطيعة، ومعرفة أن رؤى الناس لا تصدر بالضرورة عن آراء النظام كما لا تصدر بالضرورة عن آراء المعارضة (بالنسبة إلى النظام). أما كثرة السب والقذف والكلام النابي وتبخيس كل رأي وفكر وخطوة، فليست إلا دليل حقد وعجز، ولن تكون يوما دليل نضال ومروءة.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي