عشق السياسة

22 يناير 2019 - 14:26

«عندما أعشقك خذ حذرك مني»،

من مسرحية «أوبرا كارمن»

حينما يدخل الإنسان عالم السياسة، فحتما يفقد السيطرة على مصيره، إن لم أقل قراره. أحيانا يضرب أخماسا في أسداس ليتموقف من واقعة ما أو قضية ملحة تفرض نفسها في عالم السياسة، ولضغوط هذه الأخيرة يجد نفسه في تناقض مع ما يؤمن به، كأنه نوع من الجبن.

فبحكم طبيعة الأشياء لا يمكن للسياسي أن يصمت، بل عليه أن يتحدث مع الناس، لأنه يدبر شؤونهم ومصالحهم، وحينما يتكلم، عليه أن يدرك أن غموض كلامه قد يُفسر ضده. وعليه، يجب أن يكون واضحا في خطابه، صريحا في قناعاته، وهذه هي الشجاعة، وإلا فقد البوصلة، ومن تم قد ينحرف عن الصدق مع نفسه أو مع الآخر، وهكذا تتحول مواقفه إلى بيع للمتلاشيات.

إن ما بلغته الممارسة السياسية ببلادنا من انحطاط، يجعلك وأنت تنظر من حولك لا تجد في حقيقة الأمر سوى بائعي المتلاشيات من السياسة، في حين أن هذه الأخيرة، «أي السياسة»، باتت تحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى الكثير من المتغيرات التي قد تعيدها إلى وهجها وصميم اهتمام المواطنين، وأولها خطاب الوضوح والصراحة والإبداع، ليتحول مجال السياسة إلى فعل جذّاب، وليس منفر كما يقع اليوم، حيث عالم السياسة وكأنه يتحكم فيه الأغبياء، أولائك الذين لا تهمهم إلا المواقع رغم أنها في عمقها هي مواقع صغيرة بصغر قيمة محتليها، الذين بسلوكهم هذا تحولوا إلى نوع من الباعة الجائلين للمتلاشيات الفكرية، بدون عنوان ولا يؤدون ضرائب التفكير، فقط يبيعون بضاعة رخيصة هي خليط من المخططات الرديئة والمؤامرات لكسب مصالح فئوية ضيقة.

ولأن السياسة علم نبيل في إدارة شؤون المواطنين ورعاية مصالحهم والدفاع عن حقوقهم، فإنها تحتاج إلى ساسة حقيقيين، واضحين في الخطاب، صادقين في المواقف والممارسات، حتى لا يفقدوا للسياسة معناها النبيل وغايتها الراقية وقيمتها الحقيقية.

فالسياسة تفكير عام، وتدبير قريب من المصلحة العامة، تسعى إلى تحقيق تقدم البلاد وتحسين وضعية المواطنين، وهذا ما يجعلنا نجزم أن أزمة التنمية في الحقيقة لم تعد نتيجة هشاشة الاقتصاد فقط، بل، كذلك، بسبب الفكر والسياسة المنحطين اللذين فقدا قيمتهما الحقيقية، وكأن السوسيولوجي المغربي الدكتور محمد جسوس يكرر قولته الشهيرة «إنهم يريدون خلق جيل من الضباع»، ربما، عن جهل أو بإرادة.

إن ما بلغته السياسة ببلادنا من ضحالة هي مسؤوليتنا جميعا، فالوطن لا يحتاج إلى أرقام اقتصادية مطمئنة، أو حتى الإعلان عن قرارات إدارية جريئة، بل يحتاج إلى مواقف سياسية صادقة، وإلى تفكير عميق في بناء الإنسان المغربي، كما يحتاج، كذلك، إلى نقاش مسؤول نابع من إلمام بقضايانا الوطنية.

إن ما يلاحظه كثيرون اليوم، هو أن السياسة عندنا دخلت عالم التصفيات اللاأخلاقية، والكلام الذي لا يليق، وشغلت المواطنين بأتفه الأشياء، في الوقت الذي يتحرك العالم من حولنا بسرعة فائقة نحو الأفضل، نحو الأذكى، نحو بناء المستقبل الأفضل، ونحن لازلنا غارقين في ممارسة السياسة من زاويتها المتسخة، فغريب ألا نفهم بعد، أن السياسة الدنيئة عندما تُغازل شخصا ما، فهي تسعى إلى أن تلتهمه. فحذار من هذا الصنف من السياسة، وليبحث الإنسان عن خلاصه من خلال وضع حدود أخلاقية لسياسته، ولفكره، وإلا أصبح جزءا من المتلاشيات التي تُهمل على جانب الرصيف السياسي.

إن السياسي الذي يسعى إلى خلق الضباع، عليه أن يدرك جيدا أنها في آخر المطاف هي من ستلتهِمه. لذلك، حذار أن نسقط في عشق ضباع السياسة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي