لعنة عبدالكريم..

10 أبريل 2019 - 14:29

كتب محمد أمزيان ـ نجل قائد انتفاضة الريف عام 1958 ميس نرحاج سلام أمزيان- كتابا وسمه بـ «لعنة عبدالكريم»، أجد العنوان مكثفا لدلالات هذا «العود الأبدي» في علاقة المركز (إيالة شريفة كانت أم ملكية تنفيذية) بالريف (مجالا وذاكرة وشعبا).

يورد الكتاب وصية عبدالكريم الخطابي الأب لأبنائه حين كان يحتضر: «إذا لم تستطيعوا الدفاع عن الريف.. اهجروه»

فكانت بداية اللعنة.. وكان العود الأبدي..

تنقل  قائد انتفاضة «الجبل» في بداية «الاحتلال» وأبناؤه بين المنافي، معيدين سيرة قائد حرب التحرير الشعبية الريفية وأبنائه، بعد تسليمه نفسه للمستعمر الفرنسي، حين أصبح الاستمرار في الحرب لا يعني سوى إبادة جماعية للريف..

في الثقافة الريفية يمثل المنفى أقسى عقوبة.. لم يكن الريفي يهاب الموت، بقدر خوفه من أن تحكم عليه «القبيلة» بالنفي.. النفي يعادل موضوعيا التجريد من الجنسية.. الاقتلاع من الجذور.. وهكذا يصح أن نسمي وصية عبدالكريم الأب تكثيفا لنبوءة «اللعنة»…

تاريخ من الانتفاضات والهجرات والدموع والسجون.. تاريخ من الغربة عن الوطن، والغربة في الوطن، لقد كان الريفي الأمازيغي حكيما وهو يسمي السفينة «أغرابو».. فلم تكن السفن في مخيالهم الجمعي رديفة الارتحال والاكتشاف.. بقدر ما كانت عنوانا للاغتراب.. للاقتلاع.

لم تتغير الحكاية إلا في العرض دون الماهية.. حكاية العود الأبدي.. ألم يقل «نيتشه» إن الكون بعدما يستنفد احتمالات الوقائع الممكنة ويستمر الزمن في لا نهائيته، تعود تلك الاحتمالات نفسها لتشكل سيرورات مستأنفه، لاستحالة حدوث ممكنات أخرى.

بمناسبة انتهاء ما سمته فرنسا حرب تهدئة في الريف، بعث المقيم العام الفرنسي ستيغ برقية تهنئة للسلطان يوسف، ليجيبه هذا الأخير: «إن برقيتكم قد غمرتني بالسعادة، لأننا نرى في هذا الحدث نهاية التضحيات التي قدمتها فرنسا والمغرب من أجل الأمن وعودة السلام..»، وبعدها بشهور قليلة سافر السلطان لحضور احتفالات العيد الوطني لفرنسا،فقال: «إنه لمن دواعي الامتنان العظيم أن نلبي الدعوة الكريمة لحكومة الجمهورية للقدوم لفرنسا، فبعد الانتصار الساحق للجيوش الفرنسية ولقواتنا، والتي وضعت حدا لتمرد هدد دولتينا،وإعادة الأمن والسلام إلى الإمبراطورية الشريفة.. أرفع كأسي لعزة فرنسا وازدهارها».

هي الكلمات نفسها يعاد استنساخها: الفتنة، تهديد الأمن، المؤامرة.. كان السلطان إسماعيل قريبا من فهم سيكولوجية «الجماهير»/ الرعية، مدركا أن هذه السيكولوجية تكاد تكون قدرية، يشكلها المتخيل الجمعي للمكون القبلي/ اتحاديات القبائل، فكان يتعامل مع البلد باعتبارها فسيفساء غير متجانسة إلا في فوضاها الخلاقة (بالمعنى نفسه لكوندوليزا رايس)، ولذلك كان يشغل القبائل الريفية بالمعارك الخارجية حتى لا تثور عليه بسبب الضرائب.. المكوس كانت عنوان الطاعة وقتذاك.. قبل أن تدشن الحركة الوطنية والقصر بدعة «حفل البيعة» في ثلاثينيات القرن الماضي.. كان المخزن الإسماعيلي يحوز بيعة الريفيين عبر تجنيدهم لحماية الثغور المتوسطية، والأطلسية في الشريط الواقع بين طنجة وسلا.. كان السلطان الداهية رغم قسوته التي خلدتها كتب التاريخ السلطانية ومذكرات السفراء والرحالة الأوروبيين، والذاكرة الشفهية، يضرب عصفورين بحجر واحد، يأمن ثورة الريفيين ضد مظالم «مكناس» من جهة، ومن جهة أخرى، يستثمر «أغنان/عناد الريفيين في مقاومة التدخلات الأجنبية.. وهكذا استقدم شبابا من الريف الأوسط والشرقي لصد الغزو الأجنبي في المسافة بين الرباط حتى شفشاون.. ولازالت مداشر في تلك المناطق تحمل أسرها أسماء: التوزاني والمطالسي والسعيدي وأقلعي والريفي والعمارتي والعروي والبقيوي، شاهدة على المرور الريفي.. أما الشريط من شفشاون حتى السعيدية فكان له «خفر سواحله» من رجال بقيوة وتمسمان وغيرهما من قبائل الريف الذين كانوا سادة «الجهاد» البحري.. للأسف، لم يكن خلفه عبدالعزيز بهذه الحصافة، لم يرث هيبتة التي هي نظير قسوته، ولا نجاعته في تطويع القبائل التي هي من أثر نظره في أحوالها وتاريخها وشخصيتها الجمعية،، فعوض استثمار الشجاعة الريفية في صد الغازي الأجنبي، جهز السلطان الجديد حملة/حركة قادها سيئ الذكر بوشتى البغدادي لإبادة قبيلة بقيوة التي كانت تتزعم حركة الجهاد البحري نهاية القرن 19، والتي خلدتها ذاكرة الريفيين باسم «أسوكاس نفاركاطا» أو عام الفرقاطة، كما ستخلد ذاكرة انتفاضة 1958 بـ»أسكوكاس ن إقبارن»، أو عام الخودات العسكرية.. من «أسوكاس ن فاركاطا» إلى كأس على «شرف» القضاء على ميس نعبد الكريم، فـ»أسوكاس ن إقبارن»، عروجا على «أسوكاس ن الأوباش»، وصولا إلى»أسوكاس ن الحراك» يبعث المركز دائما رسائل قاتلة للمستقبل، ويزرع الألغام في طريق مصالحة تصبح بعد كل الفرص المهدرة أكثر تعذرا..

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي