«رائحة الأركان».. (الدالمزوار) في خدمة الناس -الحلقة19

31 مايو 2019 - 01:00

جرت العادة أن يكتب الأدباء والمثقفون عن الأشخاص المرموقين، سياسيين ورياضيين، علماء ومثقفين، غير أنه في هذه التجربة نجد أن عبداللطيف وهبي، ابن بيئة سوس بعبق رائحة الأركان، اختار الكتابة على رموز بسيطة وسط الشعب وبخاصة وسط جهة سوس، لها ذلك الحضور الجميل في حياة الناس مقابل غياب كلي في الواجهة العامة التي تغري السياسيين، لما لهذه النماذج الإنسانية البسيطة من قدرة كبيرة على اختزال قيم إنسانية تتجاوز محورية حب الذات.

 

بجنبات السوق توجد بعض الدكاكين المبنية من التراب تهيئ الشاي والطاجين للمتسوقين، الذين يلجونها رغبة في لقاء الأصدقاء وتبادل الأخبار والأفكار. وبالقرب منها تصطف سيارات وشاحنات، وكذا حافلة (الدالمزوار) التي يقف وراءها مساعد السائق الذي لا يتوقف عن الحديث إلى الناس، يجيب عن أسئلتهم حول وقت الانطلاق أو ثمن نقل البضائع. وفي زحمة هذه الأشياء، يصل إلى أذنك صراخ شخص يركب دابة يُدعى (البراح)، معلنا بكل طاقته الصوتية تاريخ انعقاد موسم الوالي الصالح مثلا أو أي خبر عاجل (إداري أو اجتماعي أو ديني) للعموم. يقف الناس هُنيْهةً لسماع الخبر، ثم ينصرفون غير مبالين، فهم منشغلون ويتحركون في عدة اتجاهات كأنهم يسابقون الزمن.

وأغلب هذه الدكاكين التي تبيع الطاجين، تعرض «الطواجن» بباب المقهى على الجمر المتقد في الكانون، بينما بداخل المقهى لا توجد طاولات ولا كراسي عالية كما هو الحال في المقاهي العصرية؛ فقط حصير وطاولات خشبية قصيرة للأكل. وبعد أكل الطاجين اللذيذ، يتمدد البعض منهم في قيلولة لبعض الدقائق. أما صاحب الدكان، فلا يهتم بهم، خصوصا وأن أغلب المتسوقين يأتون من الجبال المجاورة بعدما استيقظوا فجرا، يمشون لعدة ساعات للوصول إلى السوق، وهذه القيلولة تمنحهم بعض الراحة استعدادا للعودة.

وحين تمر بجانب هذه الدكاكين يواجهك أشخاص واقفين تحت مظلات فقدت لونها الأصلي بسبب ما طالها من غبار، ينادون من خلال مكبر الصوت، فيصدرون أصواتا مزعجة إما لخلل تقني في مكبر الصوت أو لكونه من النوع القديم، يعلنون عن بيع منتجات مختلفة (مبيدات لقتل الحشرات والفئران، وبذور وأدوية فلاحية…)، وعلى جانبهم أشخاص واقفون أمام طاولات صغيرة مصطفة عليها مجموعة من الأسنان البشرية، وعلى طرف الطاولة بعض أدوات العمل أهمها «الكُلّاب» لخلع الأسنان، فهو “طبيب أسنان” القرية بشكله التقليدي، قد يصادفك أن تجد شخصا فاتحا فاه وهو ينظر إلى السماء، وشخصًا آخر ممسكًا من الوراء بيديه و”الطبيب” يضع ركبته على صدر المريض في محاولة منه لخلع أحد الأضراس اللعينة دون اكتراث من المارة.

أما في الجانب الآخر من السوق، فتجد شخصاً يتجمع حوله الكثير من الأشخاص، بعضهم وقوفٌ وآخرون جلوس، يحاول أن يقنعهم بوجود مادة لعلاج جميع الأمراض من (بوزلوم)، وهو آلام الظهر، إلى مرض العيون، مرورا بحالات الإصابة العقلية أو النفسية أو العضوية؛ مادة دخلت بشكل أسطوري إلى ذاكرة الناس تدعى (العنبر) يثبت الشخص صفاء وحقيقة منتجه بجميع الوسائل، فيختار أن يحمل بين يديه جلد ثعبان طويل يقنعك بأنه صاحب الفضل في اصطياده، ويحكي قصة طويلة عن مغامرته في ذلك، ثم يقوم بعرض المادة للبيع على شكل قطع مطوية في ورقة متسخة وهو يدعو للجميع بالشفاء العاجل، ويعتبر أن الأمراض التي تلحق بالناس ليس مصدرها سوى الحسد والعين!

وعلى مسافة قريبة، يجلس شخص آخر على كرسي حاملاً تحت إبطه كتابا قديما وبيده عصا طويلة، تارة يتحدث بالأمازيغية، وتارة أخرى بالعربية وهو يحكي قصصا وروايات، يبدأ بعلي بن أبي طالب ويعرج على عنترة بن شداد، الذي حمل سيفه مهاجما أعداءه وبضربة واحدة قتل الآلاف على الميْمَنة، وبضربة أخرى قتل الآلاف على الميسرة، أو ينتقل إلى قصة «سيف بن ذي يزن» وغيرها من السِّيَر الشعبية ينصت إليها المتحلقون بخشوع وشوق، فوجوههم تتغير بتغير طبيعة الوقائع، تراهم حزانى عندما يصاب البطل، ويضحكون عندما يسخر البطل من أعدائه. وبين كل لحظة سردية وأخرى، يتوقف الشخص عن حكاياته ويدعو الجميع إلى مساهمة مادية قليلة، إما لمساعدته على أداء ثمن الكراء أو على مصاعب وتكاليف الحياة، طالبا من الناس رفع أيديهم إلى السماء من أجل استجابة الدعاء لهذا الشخص أو ذاك، لأنه ساهم معه بدرهم أو بدرهمين. وعندما يجمع مبلغا ماليا يستمر في سرد روايته، معتمدا على قراءاته ومحفوظاته وبعض من اختلاقات خياله الخصب.

أما في وسط السوق، (على الجانب الآخر) فتجد بعض النساء يعرضن بعض المنتجات التقليدية الجميلة، ومنتجات أخرى سائلة كالعسل وزيت الأركان؛ ولأنهن نساء، فغالبا ما كن يجتمعن لوحدهن، فتجدهن مستقلات بالحديث بينهن ولا يتوقفن، إلا عند قدوم مُشترٍ يسأل عن ثمن بضاعة أو عن جودة السلعة. يظل السوق كل اليوم على حالته، تدب فيه الحياة من بزوغ الفجر حتى بعد صلاة العصر، قبل أن يبدأ المتسوقون في الانصراف، فجلهم يفضل السفر على ضوء النهار بين العصر والمغرب وحين يعود إلى بيته بالجبل، وقبل الغروب بقليل تبدأ المركبات في الرحيل متجهة إلى سوق آخر في منطقة أخرى، لتبدأ قصة جديدة مع الراوي نفسه.

أما (الدالمزوار)، فكان يتحرك في السوق كأنه سيد الموضع، يمشي مزهوا يسلم عليه هذا ويسأله ذاك، البعض منهم يسأله عن حاجة والبعض الآخر يؤكد عليه أنه سيركب معه الحافلة خلال رحلة العودة إلى المدينة، ويرجوه أن لا ينساه عند وقت السفر.

يتجه (الدالمزوار) إلى أحد المقاهي حيث توضع رهن إشارته مائدة خاصة، يجلس على حصير عليه “الهيضورة”، سجادة من جلد وصوف الخروف، ليتناول الطاجين ويقضي قيلولته، ثم يصلي العصر فيعود إلى حافلته ويجلس أمام المقود، ويضع أصبعه على منبه الحافلة، معلنا بذلك أن الحافلة ستنطلق. أهل السوق والمتسوقون يعرفون أن (الدالمزوار) حينما يضغط على المنبه، فإنما ليُحدد بعض الدقائق قبل الانطلاقة، فتجد بعضهم يهرول للركوب في الحافلة، وبعضهم يسلم البضائع لوضعها على سطح الحافلة، وبنافذة الحافلة القريبة من (الدالمزوار) تجد بعض المتسوقين يتكلمون معه منتظرين دورهم، فالكل يكلمه في أذنه مباشرة، فهي طلبات وأسرار بينهم..

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي