الزمن الذي كان.. الإدريسي: تعاطف اليوسفي مع الخطابي معروف على خلاف بوعبيد -الحلقة20

01 يونيو 2019 - 02:00

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.

أشرت في الحلقة السابقة إلى تعاطف اليوسفي مع الخطابي، كيف ذلك؟

تعاطف اليوسفي مع الخطابي معروف؛ فهو أول مغربي معارض بادر إلى تنظيم أول ندوة دولية في باريس سنة 1973 عن عبد الكريم الخطابي، وقد صدرت أشغالها سنة 76 في كتاب تحت عنوان “عبد الكريم وجمهورية الريف”( la République du Rif)، وهو من قرّر إحياء ذكرى انتصار أنوال عندما أصبح وزيرا أولا سنة 1998، وهو من منح صفة “المنفعة العامة” لمؤسسة محمد عبد الكريم الخطابي. على خلاف عبد الرحيم بوعبيد، زميله في قيادة حزب الاتحاد، الذي لم يكتف بالغياب عن ندوة باريس، ومطالبته، كزعيم لحزبه، بعدم تخليد ملاحم الخطابي المغربية فقط، بل قال في حوار مع عبد الله العروي، “إن الخطابي كان إقطاعيا، ويأكل الخنزير، لو انتصر لأسّس سلالة جديدة، كما فعل السعديون”، نشره العروي في كتابه “الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية”.

 قد يكون وراء اهتمام البعض بالخطابي مجرد الرغبة في استثمار اسمه وشهرته، ألم تلمس هذا؟

لقد أشار بورقيبة، وكان أكثر شجاعة من غيره، عندما أوضح لندوة باريس، أن زعماء الأحزاب السياسية “الشرعية” في أقطار المغرب الكبير كانوا في حاجة إلى شهرة الخطابي العالمية وليس إلى منهجه في العمل المباشر. وقد أكد لي مؤسس وكالة أنباء المغرب العربي، السيد مهدي بنونة، أنه حين كان في نيويورك نصحه بعض أصدقائه الأمريكيين من أجل إنجاح مأموريته هناك أن يوظف باستمرار اسم الخطابي لتحقيق تعاطف أكبر مع دعوته لمناصرة كفاح المغاربة من أجل الاستقلال.

 وماذا استخلصت من وراء كل ذلك؟

كنت أتساءل باستمرار عن دور الانتماء الإثني للزعامات الحزبية المغربية في رسم سياسة أحزابهم، وعن المشارب الفكرية المؤثرة في صوغ توجهاتهم، وعن المصادر الأيديولوجية للحركة الوطنية المغربية التي كانت تتحكم في خططهم، وعن تأثير المدرسة الاستعمارية في بلورة آراء زعماء حزبيين في قضايا التحرر وفي مسارهم الحزبي والسياسي؟ هذه التساؤلات وغيرها ذات الصلة، جعلتني أتوجه إلى محاولة تجاوز المظاهر العامة للحركات الوطنية السياسية إلى استكشاف أغوارها ومخابرها.

وكان ذلك مدخلا لفهم كثير مما كُتب في تاريخ المغرب المعاصر والراهن، ومعرفة بعض الأدوات التي وظفت في الحصار الذي تعرض له تاريخ الخطابي ورفاقه، وإلى إدراك بعض أسباب تهميش المنطقة التي تحدر منها، واستعمال كل الأساليب والحيل لإبقاء رفاة الرجل منفية عن ثرى الأرض التي ضحى من أجلها؟ وفهم إصدار الأحكام الجائرة ضد نشطاء الحراك الاجتماعي بالريف، المطالبين بحقهم في العلاج والتعليم والعيش الكريم في حدوده الدنيا، سواء في 1958 و1959، أو في 2016 و2017؟ وعرفت بتطابق الوقائع لماذا كانت مواقف الأحزاب المغربية، في كلتا الحالتين،”متناغمة” إلى حد التماثل؟ ألا يحق للمغاربة أن يطرحوا السؤال التالي: لفائدة من يعاد إنتاج ما كنا نعتقد بأننا تجاوزناه نهائيا مع هيئة الإنصاف والمصالحة؟ إنها أسئلة كثيرة تبقى بدون جواب مقنع عمليا، ويجسده واقع المغاربة: شعبا وأمة ومصيرا.

قد يستخلص من كلامك أن الأحزاب تريد وتربي مريدين وليسوا مناضلين، على غرار الطرق الصوفية، هل هذا صحيح؟

في الواقع لم يكن هناك فرق حقيقي، بالنسبة إلي، بين قيادات الأحزاب وشيوخ الطرق الصوفية، ولعل عنوان كتاب “الشيخ والمريد” للباحث عبد الله حمودي، الذي تناول فيه الأنثروبولوجيا السياسية ومفهوم “السلطوية”، قد يعبر فعلا عن ذلك التقارب، بل الالتحام أحيانا، بين الشيخ والزعيم. فكل من يطمح إلى ارتقاء درجات السلم الحزبي عليه أن يمتثل لأخلاق المريد، أي “أن يكون بين يدي الزعيم كما يكون المريد بين يدي الشيخ”. ولعل هذا الوضع يعود إلى الموروث السياسي، في الثقافة المغربية، القاضي بالسمع والطاعة غير المشروطة لمن يتولى القيادة. إن ذهنية شيخ القبيلة كانت هي المتحكمة في سلوك القيادات الحزبية. ولطالما كنت وزميلي الأستاذ محمد اليعقابي نرى أن الأحزاب المغربية هي مجرد قبائل سياسية.

 لكن، رغم ذلك كان لابد من اختيار الانضواء تحت “قبيلة سياسية” ما، أليس كذلك؟

الاختيار الوحيد الذي كان يشعرني بقيمتي الإنسانية هو: الإيمان بتحقيق الحرية في مختلف المجالات لكل المغاربة مدعمة بالقانون، وليس الحرية لطبقية اجتماعية معينة، أو لفئة عرقية ما.

والأمر الثاني هو ممارسة النضال المؤدي إلى تطبيق العدالة الاجتماعية كأساس لتوزيع الثروة على جميع المغاربة، وتطبيق ما نص عليه دستور المغرب سنة 1962 على أن “جميع المغاربة سواسية أمام القانون”، وعدم الاكتفاء بترديد النص الدستوري قولا وإقصائه فعلا من الممارسة على أرض الواقع. وفي التصور نفسه: المطالبة بتكافؤ فرص طلب العلم والشغل لجميع المغاربة، ومحاربة المحسوبية في كل الميادين وفي جميع مظاهرها، واعتبار توفير التعليم لكل الأطفال حقا من الحقوق الطبيعية للمغاربة وليس مزية أو منة من أي جهة كانت. وفي السياق نفسه كان تحقيق الكرامة من أعز ما يجب أن يطلب ويعتز به. وكنت أومن، وما زلت، بأن غياب الحرية والعدالة والعلم والكرامة ينجم عنه وضع أقرب إلى وضع مجتمع العبيد.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي