الزمن الذي كان.. الإدريسي: المغرب يسوده اقتسام للنفوذ والثروة والريع بين عائلات معروفة -الحلقة20

04 يونيو 2019 - 02:00

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.

 أحيانا يبدو أن رؤيتك أقرب إلى رؤية طوباوية؟

قد يبدو استذكاري لهذه القناعات الشخصية بأنها يمكن أن تدرج ضمن التصورات الطوباوية للعمل الحزبي والسياسي في المغرب المستقل. غير أن المغرب كان ولا يزال يسوده اقتسام للنفوذ والثروة والريع بين عائلات معينة معروفة استحوذت على الجمل وما حمل ليلة الاستقلال، أو “الاحتقلال” بتعبير الخطابي، وبين الزوايا والطرق الصوفية، التي لها نفوذ على المجتمع أكبر وأقوى أحيانا من نفوذ المخزن، وكثيرا ما مارست تأثيرها على مريديها ليتماشى ورغبات المخزن، بتعليل “السمع والطاعة لأولي الأمر”، بدون أن تسمح بطرح أي استفسار أو نقاش فعال حول طبيعة الدولة الحديثة. وكانت قيادات ومشيخات القبائل، القوية التسلط على رعاياها، تستفيد من الريع نفسه. ولذلك، لم يكن غريبا أن تتولد لدي قناعة بأن الأحزاب المغربية ربما كانت مجرد مظهر خارجي وشكلي للدولة الوطنية الجديدة، دون أن يكون لها حضور متميز عن ثقافة الطاعة والولاء المخزنية المتوارثة منذ قرون. ومن ثمة بدا لي ولغيري أن التعددية الحزبية التي اعتمدها المخزن المغربي كانت تحمل في طياتها منهجا يحول دون أن يستطيع أي حزب أن يسلك مسلك حزب الدستور في تونس بورقيبة الذي قلب باي تونس بدون مقاومة تذكر، كما سلفت الإشارة إلى ذلك سابقا.

وللتنويه، فإن معرفة خريطة المغرب السياسي في زمن الدولة الوطنية، التي تولدت عنها هذه القناعات يعود الفضل فيها كثيرا إلى اطلاعي على كتاب “أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية” للباحث الأمريكي جون واتربوري( John Waterbury )،الذي كان، بالنسبة لي، مدخلا مفيدا لاستكشاف بنية المخزن وخطاطاته في توظيف آليات التحكم السياسي الراجعة إلى تقاليد سياسية قديمة، أكثر مما تعود إلى أي مظهر من مظاهر الدولة الحديثة.

 وما مسؤولية الأحزاب إذا كان ثقل التاريخ والتقاليد أكبر منها؟

لست أدري لماذا تحضرني صورة الطرق الصوفية الشهيرة بالمغرب وزواياها في علاقتها مع المخزن في مرحلة ما قبل الاستعمار؟ فعلى العموم كانت هناك ثلاث مراتب لتلك الزوايا: أولا، زوايا تتميز بمرتبة القرب من المخزن الشريفي، كالزوايا التي لها أصل إدريسي. خاصة تلك التي كانت تناصر وتؤيد كل ما يصدر من قرارات عن السلطان ومخزنه، الذي كان لا يتوانى عن الإغداق عليها بالهبات والعطاءات وظهائر التوقير.

ثانيا، الزوايا ذات النسب العربي، وبخاصة النسب القرشي كالزاوية الناصرية والزاوية الشرقاوية، فقد عرفت العلاقة بينها وبين المخزن الفتور أحيانا، دون أن يصل إلى مستوى العداء أو القطيعة. وثالثا الزوايا المشكوك في نسبها العربي، والمتبناة من قِبل مناطق ثقافتها ليست عربية مئة في المئة؛ كالزاوية الدلائية المسناوية، التي تم القضاء عليها من قبل السلطان المولى رشيد، وتحويل مقرها إلى قشلة لعبيد البخاري في عهد مولاي إسماعيل. وعلى كل، فالناظر إلى مكانة الأحزاب وبعض الهيئات ذات الطابع السياسي في الدولة الوطنية، قد لا يستغرب التشابه الكبير بين وضعها ووضع الزوايا قبل تأسيس الأحزاب. خاصة علاقة المخزن معهما، وبالأدوار المنوطة بهما في التعامل مع المريدين والمناضلين.

 لكن يبدو أن الوضع تغير كثيرا مقارنة بما رصده جون واتربوري في الستينيات؟

أنا استدعيت بعض الأمور التي كانت تؤرقني في زمن الأمس، وتدعوني إلى فهم سبب الأرق الذي كنت أعانيه. وعلى الجيل الحالي أن يقول للمغاربة ماذا يرى في أحزاب زمنه الحاضر. أما أنا فقد غادرت الانتماء الحزبي منذ أن اقتنعت بما أدركت.

 طيب، دعنا نعود إلى زمنك الجامعي في الجزائر، هل يمكن أن تستعيد بعض محطات الجو العلمي والثقافي للجامعة يومذاك؟

كانت الأجواء الثقافية لجامعة الجزائر تعكس أهم التيارات الفكرية والثقافية السائدة في العالم. كانت الماركسية في صدارة التداول والتأثير. ومن أغرب ما كنا نحن جيل ذلك الزمن نسمعه من المتحمسين للماركسية قولهم: إن فكر ابن خلدون الاجتماعي، الذي أنتج في القرن الرابع عشر الميلادي، فكر ماركسي، وليس العكس مثلا، بل كان جل من يفكر تفكيرا ماديا، أو تفكيرا مستخلصا من الواقع ينسب صاحبه للماركسية بدون أي حرج؛ كما كان الصراع محتدما، داخل الماركسية، بين التأويل أو التوجه اللينيني (نسبة إلى لينين) وبين القراءة والتوجه الماوي (نسبة إلى ماو تسي طونغ). غير أن أنصار الماركسية اللينينية كانوا أكثر عددا في صفوف الطلبة، لأن البروباغاندا السوفياتية كانت أقوى من تأثير الثورة الثقافية لماو تسي طونغ.

وفي المجال الفلسفي كان لوجودية سارتر نفوذ أكبر، مقارنة مع أي تيار فلسفي معاصر آخر، لأن الزمن كان زمن الوجودية بامتياز. غير أنه لم يكن لمؤسس الوجودية مارتن هايدغر صيت كصيت سارتر. وإلى جانب ذلك، حظيت نظرية التطور لداروين بحضور قوي في مجابهات المؤيدين والناكرين، وبارتفاع أصوات المتحاورين لبعضهم البعض حول أصل الإنسان وتطوره. وكان أوجيست كونت ودوركايم من أشهر المهيمنين على الدراسات السوسيولوجية ومصطلحاتها. أما في جانب التيارات لأدبية، داخل أروقة الجامعة، فحضور برنار شّو، وكافكا، وكامو، وهيمنجواي، وطه حسين، ونجيب محفوظ، وسلامة موسى، ومحمد ديب، كان الأقوى.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي