الزمن الذي كان.. الادريسي: كان الحبابي لا يوافق على أن يكتفي الأستاذ المدرس بعرض آراء الفلاسفة ونظرياتهم

05 يونيو 2019 - 02:03

من عمق شمال المغرب، ريف آيث ورياغل، إلى طنجة والجزائر وتونس، ثم العودة إلى المغرب: إلى جامعة محمد الخامس بالرباط، قبل أن تقوده غواية الحركة إلى كندا، نصحب الجامعي، الباحث في تاريخ الفكر السياسي في الإسلام، والدبلوماسي، علي الإدريسي، في عملية سبر أغوار ذاكرة متدفقة. في هذه الحلقات الرمضانية، يعيد الإدريسي بناء الأحداث، وتقييم مسارات أزمنة، واستخلاص الدروس. فـ«الحديث عن الزمن الذي عشناه وعايشنا أحداثه وظرفياته لا يعني استرجاعه، كما تسترجعه كاميرات التصوير، بل استحضارا لوقائع معينة كان لها تأثير إيجابي أو سلبي على الذات، وعلى المجتمع الذي ننتسب إليه». كل ذلك بعين ناقدة ذاتية-موضوعية، لعل في عملية التذكر تلك للزمن الذي مضى ما يفيد الأجيال الحالية واللاحقة.
في الحلقة السابقة، أشرت إلى أهم التيارات الفلسفية التي كانت سائدة في الجامعة، ماذا عن الفكر الإسلامي؟
فيما يخص موضوعات الفكر الإسلامي، فقد أولي الاهتمام أكثر لفكر جمال الدين الأفغاني، ورشيد رضا، وعبد الحميد بن باديس، ومحمد إقبال، وسيد قطب، ومتولي شعراوي. وكنت أجد كثيرا من العمق في فكر مالك بن نبي، المهتم بشروط النهضة، والمحفز على الفعالية، بدل الاكتفاء بالتغني بالأمجاد الماضية في ظل بؤس اجتماعي عام، وتخلف تاريخي، وفقر في الأفكار المنتجة للحضارة؛ وكانت كتاباته ومحاضراته بمثابة نداء للشعوب الإسلامية أن تنهض من سباتها، وأن تتمرد على حياة الغريزة، وعلى الاستلاب الثقافي الممارس عليها من قبل ما يسمى بفكر الشيوخ السلفي، وما يطلق علية فكر المعاصرة والحداثة الأوروبية. وساهم في تأسيس مسجد الجامعة، وملتقى الفكر الإسلامي؛ هذا الملتقى الذي استولت عليه وزارة الشؤون الدينية الجزائرية، وراحت تعقده سنويا، إلى أن تم توقيفه في أوائل التسعينيات من القرن الماضي. وكان الشيخان محمد الغزالي ويوسف القرضاوي من ألمع نجومه. أما مالك بن نبي الذي لم يكن يُدع لحضور أشغاله، فقد عوضه بعقد لقاءات فكرية في نهاية كل أسبوع في بيته. وكنت محظوظا بحضور الكثير منها.
وما هي أنشط الأسماء التي كانت تجلب انتباه الطلبة وعموم المثقفين؟

أتذكر عائشة عبد الرحمان (بنت الشاطئ) التي كانت من المثقفين البارزين المحاضرين في الجزائر، قبل أن يحظر دخولها التراب الجزائري بسبب موقفها من قضية الصحراء المغربية. ومن الأسماء الفكرية التي عرفها الشارع الثقافي في الجزائر كذلك؛ اسم جاك بيرك، وسمير أمين، ويوسف إدريس، وإحسان النص، ومحمد عزيز الحبابي، ومحمود مكي؛ وهؤلاء الثلاثة كانوا أساتذة في جامعة الجزائر. وما يمكن التنويه به أن قاعات المحاضرات الكبرى كقاعتي النفق الجامعي وابن خلدون لم تكونا قادرتين على استيعاب الأعداد الكبيرة من مرتادي المحاضرات. وكنت أحس بعطش طلاب العلم وعموم المواطنين إلى الارتواء بمختلف المشارب المعرفية والعلمية.
ذكرت بعض أساتذة الجامعة في زمنك، من هم الأساتذة الذين أثروا في شخصك؟

كان الأستاذ عبد المجيد مزيان، أستاذ علم الاجتماع في مقدمة من حبب إلي العلم، فقد كان عالما عامرا بالثقافة الإسلامية والتراثية، وبالثقافة المعاصرة الغربية، وبمناهج التدريس والتحليل المقنع. الأمر الذي كان ينقلني إلى رحاب المعرفة العلمية بسهولة كبيرة. وقلما كنت أتناول دفترا وقلما لأسجل دروسه؛ فقد كانت تنساب بسلاسة إلى العقل وبحب إلى الوجدان. كما كانت طريقته في تبيان مصطلحات علم الاجتماع وعلم العمران البشري لابن خلدون، تساعدني على التعامل مع المصادر والمراجع بكثير من السهولة. الأستاذ الآخر هو بوعمران الشيخ، أستاذ تاريخ الفلسفة، الذي كان يملأ الطلبة ثقة في ذاتهم الباحثة. وقد رافقني بالإشراف في مرحلة الدراسات العليا. ومن تواضعه العلمي كان يقول لي أنا أستفيد من نصوص أطروحتك ومن قراءتك الجديدة والمتميزة لها، وأنت تستفيد مني في الجانب المنهجي وليس أكثر. وأعترف بأني انتفعت كثيرا في حياتي من تواضعه العلمي. وكان الأستاذ محمد عزيز الحبابي، أستاذ الفلسفة العامة، لا يوافق على أن يكتفي الأستاذ المدرس بعرض آراء الفلاسفة ونظرياتهم على طلبته. ثم يقوم باستقبالها منهم في ورقة الإجابة أثناء الامتحان. فقد كان يؤكد أن مهمة الأستاذ الأساسية هي استكشاف مجاهل الفكر بالتنقيب في عقله استخراجا واستدلالا. ولذلك كان يلح في دروسه على أنه جاء ليتفلسف وينقب، ولم يأت لعرض ما وصل إليه فلاسفة سابقون نقبوا هم بدورهم في عقولهم. وكان يكرر باستمرار أن تنقيب الفيلسوف يمر بثلاث مراحل؛ مرحلة ما قبل التنقيب أو التفلسف، ومرحلة ممارسة التفلسف، ومرحلة تقييم التنقيب التي تأتي عقبهما.

وكان الأستاذ أسعد درقاوي، أستاذ علم النفس، يبهرني باحترامه لطلبته، وضبط مصطلحاته ودقة لغته، وصرامته العلمية. أما علي عيسى، أستاذ علم الاجتماع، فقد كان يصرح، أو يلمح، في دروسه بأن العلم الذي لا تأخذ به الدولة لاستعماله فيما يصلح إليه لينتفع به المجتمع في تنميته وازدهاره، هو أشبه بعلم الأنساب الذي لا يفيد إلا في التباهي والافتخار بين الأقران، دون تغيير الواقع. وكان هناك أساتذة كثيرون لا يختلف سلوكهم عن السلوك التقليدي لبعض المشايخ، أو سلوك شيوخ الطرق الصوفية.
لا شك أنك أقمت في الجزائر لفترة بعد المرحلة الجامعية، ماذا
تختزن ذاكرتك عن لحظة طرد مغاربة الجزائر في خريف 1975؟

كان النظامان في البلدين يبحثان، في الواقع، عن كل ما يؤيد الروح الوطنية السياسية لكل منهما، تأكيدا وترسيخا لما حققته حرب الرمال سنة 1963 فجاءت اتفاقية، أو معاهدة، رسم الحدود السياسية الموروثة عن الاستعمار بين المغرب والجزائر، الموقعة بين الملك الحسن الثاني ورئيس مجلس الثورة الجزائري هواري بومدين سنة 1972، بمثابة المرحلة الثانية لتحصين الروح الوطنية في كلا البلدين، والتسليم بالأمر الواقع على الأرض. لكن كان من المهم للنظام الجزائري أن يتأكد من تحقيق المرحلتين ما كان مأمولا منهما، لذلك سارع إلى سحب قضية الشباب الصحراوي، المعارض للحسن الثاني، من القذافي؛ وتشجيع رغبتهم في الاستقلال التي كان القذافي أول من دفعهم إليها، قبل أن يتبنى « المشروع » نظام بومدين لأسباب أضحت معروفة بعد ذلك، منها منع النظام المغربي من العودة إلى المطالبة بحدود تتجاوز حدوده الموروثة عن الاستعمار. وكانت المآخذ الأكثر تداولا في وسائل الإعلام الجزائرية بأن المغرب له نزعة توسعية على حساب الجيران تهدد الاستقرار في شمال إفريقيا وفي غربها برمتهما، وتهدد الحدود المشتركة بين البلدين المغرب والجزائر، على الرغم من توقيع رئيسي البلدين على معاهدة ترسيمها. وكان ذلك يُقدَّم كانتصار جزائري يضاف إلى إنجازات نظام بومدين داخليا ودوليا. فقد كانت عبارته « الجزائر عنوان سياسي كبير » من أكثر عباراته ترديدا على ألسنة الصحافة الجزائرية في ذلك الحين. وكان يشاع بين الجزائريين أن لا شيء يتحرك في منطقة شمال إفريقيا إلاّ بإذن الجزائر، وتم اعتباره انتصارا للوطنية الجديدة الخاصة بزمن الاستقلال. وفي هذا السياق، حسب اعتقادي، تم توقيع الأمر بترحيل مغاربة الجزائر، حاملي بطائق الإقامة الرسمية في الجزائر، إلى ما وراء الحدود الجزائرية.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي