كرة الندم!

11 يونيو 2019 - 13:38

لا أشجع «البارصا» ولا «الريال»، ولا «ليفرپول» ولا «مانشستر»، ولا «نهضة بركان» ولا «النهضة القنيطرية» ولا «الوداد» ولا «الرجاء» ولا «الترجي»… من زمان لم أعد أهتم بكرة القدم، ولا أشاهد «الماتشات»، حتى المنتخب الوطني لا تهمني مبارياته على الإطلاق. عندما تضطرني الظروف إلى تتبع إحدى المباريات، أمارس سياسة «إنا عكسنا»: الفريق الذي يشجعه الجميع، أساند خصمه، نكاية في اللعبة. لن أذهب حد مساندة «الترجي» ضد «الوداد»، لكنني لن أشجع «الوداد» ضد «الترجي»، ولا يهمني في شيء مصير المباراة التي تسببت في أزمة بين جماهير الفريقين. تعليقي الوحيد: «لو كانت التفاهة تقتل لكنا قلة قليلة نتعثر بين الجثث»… جثث المشجعين وبعض الصحافيين والسياسيين والمسيرين الذين حولوا مباراة تافهة إلى «معركة» بين بلدين.

هناك شيء صبياني في كرة القدم. لذلك أفضل أن أتحدث عنها بصيغة الطفولة. عندما كنا صغارا كانت أجمل الألعاب بلا منازع، وكانت المباريات تنتهي أيضا بـ»معركة». كرتنا كانت بلاستيكية بمربعات صغيرة، لونها أزرق أو أخضر أو بني، ثمنها ثلاثة دراهم. نبتاعها عِندَ البقال. تكون معلقة على حبل، جنب عناقيد التمر والمكنسات ومقررات الرابعة ابتدائي. كنا «نتناقش» في ما بيننا كي نشتريها. نقوم باكتتاب واسع يشارك فيه كل أطفال الحي: عشرون سنتيما للفرد. قبل الشروع في اللعب، نثقبها بإبرة كي يتسرب قليل من الهواء. إذا لم تفعل تنفجر الكرة لدى اصطدامها بأول مسمار أو قطعة زجاج وتترك لك غصة في الحلق. كنا نلعب طوال اليوم، نسجل عشرات الأهداف، ونرتكب مئات المخالفات، ونحول النهار إلى ساعات مليئة بالصياح والشتائم. شتائم سوقية لا يمكن أن تستقيم المباراة بدونها. نسقط وننهض، نراوغ ونسجل، نتشاجر ونتصالح، ولا نفكر أبدا في العودة إلى البيت. لا يجبرنا على ذلك إلا الظلام، حين تصبح الكرة غير مرئية بالعين المجردة. لكن، عندما نقرر الانصراف، تواجهنا مشكلة عويصة: من سيحتفظ بالكرة؟ الكل يريد أن يأخذها معه إلى البيت. الكل يتذكر العشرين سنتيما، التي كانت تدفئ جيبه، ويقسم ألا يعود إلى البيت بخفي حنين. وبسبب ميلنا التلقائي إلى العدوانية والشجار، نعجز دائما عن التفاهم. بعد أخذ وردّ، نلجأ إلى «الحل النهائي»: نفتش عن شفرة حلاقة أو سكين ونشرع في تمزيق الكرة إلى مربعات صغيرة، نفرقها في ما بيننا قبل أن ننسحب في اتجاه بيوتنا ونحن نشعر بمزيج من الحسرة والاطمئنان: حسرة على الكرة التي لم تعش أكثر من نهار واحد واطمئنان لأن الآخرين لم يأخذوها معهم.

تبدأ «الخشونة» عندما يصيح أحد الأطفال بعد طول نقاش: «عرفتي آش يجيكم مليح، عطيوني الكارو ديالي!»، يشعر الجميع بمغص في المعدة، ويزايد عليه آخر: «عطيوني حتى أنا الكارو ديالي»… ويأتي ثالث بشفرة حلاقة ويشرع في تمزيق الكرة مربعا مربعا، ثم نذهب إلى بيوتنا متحسرين. «الوجه المشروك ما كيتغسلش»، وكرة الاكتتاب تعيش نهارا واحدا.

بعد يوم أو يومين، نقرر أن نلعب من جديد ونشتري كرة أخرى، نمزقها في النهاية بالطريقة عينها!

أحيانا، كنا نلعب مباريات حامية ضد فرق أحياء مجاورة. مواجهة ساخنة يكون فيها الفوز حقيقيا. كل لاعب يعطي درهما، حتى نجمع حصة محترمة يفوز بها من يربح اللقاء. الملعب عبارة عن مكان مهجور، نضع فيه حجرين من كل جهة كي نرسم المرمى، وعادة ما تكون أرضيته غير مستوية. الفريق المحظوظ يلعب في الجزء المرتفع وتكون الريح لصالحه، لذلك كنا نقوم بالقرعة قبل بداية المباراة كي نحسم في هذه الامتيازات، «بيل أو فاس». من يربح يختار المكان الأفضل. كل الوسائل كانت مشروعة للانتصار والظفر بالدراهم. كان رشيد، صديق الطفولة والحي داهية. عندما تقع القرعة على الفريق الخصم، يوشوش في آذاننا مقترحا أن نرفع أيدينا ونصرخ كما يفعل المنتصرون بمجرد ما يكشف الآخرون عن الجزء الذي يفضلون احتلاله من الملعب. ورغم أنهم تركوا لنا الجزء الأسوأ، فإن حركتنا تزرع الشك في صفوفهم، ويدخلون المباراة وهم يعتقدون أنهم أخطؤوا الاختيار. كان رشيد خبيرا في الحرب النفسية. عندما ننتصر نحمل الدراهم الثمينة ونجري عند عبدالرحمان «مول الشفنج»، كي نحوّل الدراهم إلى «شفنجات» ساخنة نلتهمها بكثير من النهم. عندما ننهزم، نعود إلى الحي ونحن نجر أذيال الخيبة، ونعض بنان الندم!

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

محمد سدحي منذ 4 سنوات

بعد مرحلة الطفولة، تفاهة كلها الكرة، خاصة إذا كانت تلعب بجدية مفرطة...

التالي