أطباء وأطباء..

26 يونيو 2019 - 13:46

تطرح نضالات الطلبة الأطباء إشكالات على أدوار الدولة، كما على الفاعل السياسي والمدني، سواء أكان في صف الموالاة أو في خندق المعارضة.. ذلك أننا نجد أنفسنا أمام دولة فائقة السلطوية، لا تريد أن تتخلى عن مهام الضبط والتحكم، تسطو على اختصاصات دستورية للسلطتين القضائية والتنفيذية، ولا تترك للسلطة التشريعية سوى هوامش تشبه تلك المساحة التي تركتها الدولة السلطانية قديما لمؤسسة الفقهاء، أي الخوض في أحكام الحيض والنفاس، والابتعاد عن قضايا الحكم والولاية الكبرى، لكن هذا التضخم السلطوي يقابله انسحاب رهيب من القيام بواجب تأمين الحد الأدنى من الخدمات الاجتماعية، هي معادلة مختلة تفسر في جزء منها هذا الانبثاق لزخم الحركات الاجتماعية غير الخاضعة لتأثير التوجيه الحزبي والإيديولوجي.

المكر الحِجاجي لهذه السلطوية، المرافق للحكامة الأمنوية والاستخدام «الغوبليزي» لجزء من الإعلام التابع، قادها إلى مواجهة حركة الطلبة الأطباء عبر ثلاثة دفوعات تتأسس على الإعنات والمغالطة، وهي دفوعات تشبه في خطوطها العريضة ما رافعت به في مواجهة حركة الأساتذة المتعاقدين:

أولا: الزعم أنها حققت نقطا كثيرة من الملف المطلبي: ذلك أنها توافق على نقط عديدة لا تشكل جوهر المشكل الأساس، لتوهم غير المتتبع أنها تسلحت بالمرونة في مواجهة تعنت الطلبة الأطباء، وهو التكتيك نفسه الذي انتهجته مع حركة الأساتذة المتعاقدين، فقد وافقت على مطالب كثيرة، ولكن دون الخوض في النقطة الأبرز التي هي الإدماج في أسلاك الوظيفة العمومية، وفي ملف طلبة الطب لم تقترب الدولة من إشكال ترسيم الحدود بين الكليات العمومية والخاصة التي تحظى برعاية خاصة.

ثانيا: إخراج أرنب «العدل والإحسان» من قبعة الساحر.. لكن هذه المرة بجرعة أكبر، ووقاحة مقيتة تستحمر الرأي العام، وتأكل الثوم بفم «العدالة والتنمية»..

ثالثا: التمويه واستغلال سوء فهم غالبية المواطنين لهذا الملف، للعزف على وتر الغضب الشعبي من تدني الخدمات الطبية، لقد استغل مكر السلطة استياء العديد من المواطنين من واقع الصحة العمومية لتأليبهم ضد حراك الطلبة الأطباء، وتصويرهم كمشروع انتهازيين لا يهمهم سوى مصلحتهم الخاصة، وكأن الدفاع عن المصالح الخاصة مادامت مشروعة يعد جرما.

وإذا كانت الدولة قد أخرجت ورقة «العقد شريعة المتعاقدين» في وجه الأساتذة المتعاقدين، وكأنها دولة تحترم تعاقداتها مع المواطنين، وهي تعلم أن تلك العقود هي عقود إذعان، مادامت استغلت حاجة خريجي الجامعات للعمل في واقع بطالة تصل حد 25٪ في صفوف الحاصلين على الشهادات، فإنها في حالة طلبة الطب أخرجت ورقة رفض التمييز بين المواطنين، واعتبرت تحقيق مطالب طلبة كليات الطب العمومية تمييزا ضد طلبة كليات الطب الخاصة، ولا أجد توصيفا لهذا سوى «الطنز»..

تستفيد الكليات الخاصة من امتيازات ضريبية، ومن تمويلات من المال العام تحت غطاء الشراكة، وتستفيد من امتيازات عقارية، ومن غض البصر عن اشتغال أساتذة الكليات العامة بها خارج الضوابط المتعلقة بسقف ساعات اشتغالهم في القطاع الخاص، وتمتلك إمكانات ضخمة نتيجة استثمارات كبيرة محلية ودولية،. وتقف وراءها شخصيات ومجموعات نافذة، ولها مستشفيات توفر فرص تدريب في ظروف لا تتوفر لكليات الطب العمومية، فعن أي تمييز تتحدث الدولة والناطق الرسمي باسم العبث؟..

الدولة تعلم أن طلبة الكليات العمومية لم يطالبوا بمنع طلبة الكليات الخاصة من اجتياز مباريات التوظيف في القطاع العمومي، حتى نتحدث عن التمييز، مع العلم أن من يدفع نحو 13 مليون سنتيم في السنة من أجل التكوين، لن يجتاز مباراة للتوظيف في منصب مالي بثمانية آلاف درهم شهريا..

لماذا تصر الدولة على أن تفتح مباريات الإقامة والتخصص في وجه طلبة الكليات العمومية والخاصة، مع أن المناصب محدودة جدا، ولم يتم الزيادة فيها؟ لماذا هذا الإصرار، مع العلم أن الكليات الخاصة قادرة على توفير هذه «الخدمة» في المستشفيات الخاصة، وفي شروط للتأطير والمواكبة أفضل بكثير مما هو متوفر في المراكز الاستشفائية العمومية؟

وفي المحصلة تستمر معاناة طلبة الطب في ظل مسلسل بلترة الطبقة الوسطى، وفي ظل تغوّل أوليغارشيات ريعية، وفي ظل ضعف أدوات الممانعة الحزبية والنقابية، التي تتراوح بين العجز والتواطؤ.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي