هل نحن بصدد نهاية الوطنية؟

26 يوليو 2019 - 12:12

من الصعب اليوم أن تمارس السياسة من غير خلفية تستحضر تاريخها في المغرب، والمعارك التي خيضت على خلفية وطنية.

البعض يريد أن يصور بأن المغرب قطع مع هذه الذاكرة، وأن السياسة اليوم، تجاوزت منطق الصراع على خلفيات إيديولوجية، وبدأت تركز جهدها على بناء المشروع الإصلاحي، وأن المعارك تخاض داخل المشروع، وليس بين مشروع ومشروع، وأن الأفق هو تجويده وحسن تنزيله.

لكن الحقيقة هي غير ذلك، سواء في بعدها السياسي أو الطبقي أو الهوياتي والقيمي.

صحيح أن الحركة الوطنية، وبشكل خاص بعض فصائلها في وقت من الأوقات، دبروا الصراع مع الحكم بمنطق وجودي، وانعطفت بعض التيارات السياسية إلى النضال بعنوان سحب الشرعية عنه، بل اتجهت إلى تبني الازدواجية بين الخط السياسي وخط الحسم العسكري، كما تحكي ذلك أكثر من خمس مذكرات صدرت في السنتين الأخيرتين، لكن، بعد نهاية تجربة الحلم والغبار، في بعدها الاتحادي (تجربة خط الفقيه البصري) أو بعدها الماركسي ــ اللينيني (الحركة الماركسية ــ اللينينية الجديدة في المغرب)، بقي سؤال مواجهة الاستبداد مفتوحا، وغير الاتحاد الاشتراكي عنوان التحرير، وأحل محله عنوان الدمقرطة، وجعله مع الزعيم التاريخي عبدالرحيم بوعبيد  مدخلا للتحرر، واستمر نضال الكتلة الديمقراطية بالعنوان ذاته سنوات طويلة، إلى أن أقنعت الظروف الاقتصادية والمالية (السكتة القلبية) الملك الحسن الثاني، رحمه الله، بتجربة التناوب، التي تأخر تنزيلها بسبب تفاصيل تهم الصراع حول الديمقراطية ومواجهة الاستبداد.

ولم يهدأ في المغرب الصراع بين الجهات التي تريد مراكمة الثروة، وبين المجتمع الذي يتوسل بأدوات الدفاع الشعبي والمدني من أجل تحصين مكتسباتها الدنيا، وتحرك الحراك الاحتجاجي في المغرب على خلفية مطلبية، ثم ما لبث أن أصبحت له عناوين سياسية، بسبب إدراكه بأن قضية الثروة ليست مفصولة عن السلطة، وأن حل مشكلة تفقير الفقراء وإغناء الأغنياء، يوجد في السياسة وليس في أي مربع آخر.

السلطة السياسية، بعد مسار من الحراك، أقرت بخلاصة أن فئة قليلة تستفيد من الثروة، وأن دينامية المغرب الاقتصادية لا يصل عائد نموها إلى كل المستهدفين، أن الحاجة تفرض تعديلا جوهريا  للنموذج التنموي. لكن الاشتغال على السؤالين، لماذا فشل النموذج التنموي في توزيع الثروة وإيصال عائدات النمو إلى كل المستهدفين، وسؤال بناء نموذج تنموي جديد، لا ينفصلان عن سؤال السياسة، والعلاقة بالسلطة، وأن الانشغال بالبحث عن الرأسمال اللامادي، هو مجرد تغطية عن الإشكال الحقيقي الذي يربط المشكلة بطبيعة العلاقة بين الجهات النافذة في السلطة والجهات المهيمنة على الثروة في المغرب. في موضوع الهوية والقيم، كان المحور الأساس لمعارك الحركة الوطنية يدور حول موقع اللغة العربية في البناء الدستوري والقانوني والسياسات العمومية. كانت الحركة الوطنية تعي بأن قضية اللغة العربية ليست فقط، اختيارا هوياتيا وقيميا، وإنما هي نقطة صراع مفصلي في معارك السلطة والثروة. صحيح أن بعض القوى اليسارية في المغرب كانت تحتضن التيار العروبي والتيار الفرنكفوني، سواء منها الاتحاد الاشتراكي أو التقدم والاشتراكية، لكن الكلمة الأخيرة في الصراع كانت للنزعة الوطنية، لأن قوى الحركة الوطنية كانت تدرك حدود العلاقة بين اللغة وبين إشكال التحكم في الثروة والسلطة في المغرب. البعض اليوم يحاول أن يمحو هذه الذاكرة، ويصور بأن المغرب تجاوز كل هذه الجبهات من الصراع، لكن إذا كانت القوى المحسوبة على الوطنية تحمل هذا التصور، فالآخرون في الجهة الأخرى، يستحضرون محطات هذا الصراع، ويتحركون من وحي الهزيمة التي لحقت بهم بعد إقرار التعريب.

ألا ترون أنهم بدون قانون إطار، وحتى قبل ذلك بكثير، يسارعون لإقرار مذكرات غير قانونية، تسارع لفرض واقع تعميم تدريس المواد العلمية باللغة الفرنسية، ضدا على الرؤية الاستراتيجية؟ هل كان بلمختار يتصرف من تلقاء نفسه، وهو يخالف رئيسه في الحكومة؟ وهل سار خلفه السيد سعيد أمزازي في المسار نفسه ضدا على توجهات الحكومة خارج منطق الصراع واستدراك خيبات الهزيمة، وهو الذي لا يعرف حرفا في السياسة؟

دعونا من الهراء، إذا كان المحسوبون اليوم على الحركة الوطنية يظنون أن جبهات الصراع انتهت، وأنهم أصبحوا جزءا من  المشروع الإصلاحي الوطني، فهم لا يفعلون أكثر من استبدال تجربة الحلم والغبار بتجربة أخرى عنوانها «الوهم»، وأنهم بتنازلهم عن مواقعهم النضالية ضد الاستبداد والاستفراد بالثروة والتحكم في توزيع منظومة القيم، يضعون آخر إسفين في نعش الوطنية ويؤذون بنهايتها.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي