منير أبو المعالي يكتب.. ثكنة المطافئ

08 أغسطس 2019 - 18:00

لحسن حظ السلطات أننا لسنا مواطنين كما يجب. لو لم يكن الشعور بالكآبة يتملكنا كل مرة طلب منا فيها التوجه إلى محكمة، ما كان جهاز مثل الوقاية المدنية سيحس بالانتعاش باستمرار. ولقد فقدنا آخر أمل عندما بات هذا الجهاز مدنيا بالاسم فحسب، وتحول إلى جهاز عسكري مثله مثل الدرك الملكي، عندما أقرت الحكومة، قبل عام فقط، ودون ضجيج، إخضاعه لقواعد النظام العسكري، دون أن يلتفت أحد إلى ما قد يشكله ذلك من هروب من المساءلة في بلاد مازالت متوجسة مما قد يفعله مواطن بسيط إزاء سمعة الجيش. كانت الآمال الغارقة في التوهم، أن هذا التحويل السريع سيعزز الكفاءة المهنية لجهاز المطافئ. لكن كان الوضع سيئا في الماضي، وقد ازداد سوءا الآن.

يموت الناس يوميا على الطرق، أو غرقى، أو في حرائق، فقط لأن جهاز الوقاية المدنية لم يعمل بالطريقة المناسبة. لا يحدث هذا في مكان آخر. أرواح الناس ليست رخيصة على كل حال، لكن معدات المطافئ عندنا، ربما، اقتنيت بأرخص الأسعار في مزادات الأشياء المستعملة.

القصص المرتبطة بجهاز المطافئ لم تعد مزعجة؛ سيارات الإسعاف التي غالبا ما لا تصل في الوقت المناسب، هي نفسها غير مزودة بأي تجهيزات إنقاذ، باستثناء طاولات تشبه تلك الموجودة في المشرحة. وشاحنات الإطفاء غير مهيأة للاستعمال الحضري في المناطق المأهولة بكيفية غير منظمة. تقف الشاحنة على مبعدة مائة متر منتظرة أن يبدع الموظفون، المنهكون تحت وطأة الرواتب الهزيلة، خطة لإيصال المياه إلى الهدف. في تلك الفجوة الزمنية، يتحول الضحايا، الذين كان بالإمكان إنقاذهم بتدخل سليم وسلس، إلى جثث متفحمة.

خراطيم المياه المثقوبة، والصهاريج المحمولة على الشاحنات وهي تهرع بسرعة إلى حريق، ثم يتذكر الجميع أنهم قد نسوا ملء الصهاريج بالمياه.. هذه ليست صورا من كوميديا، بل هي حقائق توثقها أشرطة فيديو لشهود عيان.

جرحى حوادث السير يموتون في الغالب على قارعة الطريق وهم يعدون الدقائق، وقد تحولت إلى ساعات، حتى تصل سيارة الإسعاف. ستكون سيّئ الحظ إن حدث لك مكروه على الطريق، وكان أملك الوحيد مرتبطا بطريقة عمل جهاز الوقاية المدنية.

لم يكن ينقص جهاز الوقاية المدنية، غير الكفء وناقص التدريب كما التجهيز، سوى جعله فوق المحاسبة. فبتحويل مقاره إلى ثكنات عسكرية، لم يعد يحق لأحد ملاحقة هؤلاء الأشخاص المسؤولين عن ضياع الأرواح بهذه الطريقة الخالية من أي روح.

هنا مربط الفرس؛ لا يسأل جهاز الوقاية المدنية عن أي شيء. المسؤولية التقصيرية مجرد هراء، وسيكون حظك حسنا إن عوملت بلباقة من لدن رجالها الذين يبدو أنهم يتقمصون فظاظة العسكري بسرعة رهيبة.

تمثل الوقاية المدنية المنفلتة من عقال أي مساءلة، والمستفيدة بشكل ضمني من شعور الناس بأنهم مغلوبون في أي مواجهة أمام القانون مع جهاز مثله، حالة نموذجية لقدرة بعض قوى حفظ الأمان على حماية نفسها من القانون، الذي من المفترض أنه يحمي حقوق الناس.

تحويل الوقاية المدنية إلى فرع للجيش في الاستخدامات المدنية مؤشر على الطريقة التي يُنظر بها إلى الخدمة العمومية. كيانات غريبة عن دولة المواطنة تستطيع السيطرة على النفوس دون أن يستطيع أحد ردع الانفلات.

تلاشت سمعة الوقاية المدنية بشكل تدريجي تحت الضربات الأخلاقية، المتمثلة في الغضب العارم على تقصيرها في العمل، أو السخط على الطريقة التي تستقطب بها أفرادها. بكلمات أخرى؛ لا يمكنك أن تنتظر شيئا كبيرا وأنت تمنح عسكريا وظيفة مدنية وهو محتفظ بزيه ورتبته.

إن تقييم عمل جهاز الوقاية المدنية لا يحتاج إلى خبرة، فالتجربة الشخصية لكل واحد منا تمنحه القدر الكافي من الملاحظة العيانية للحكم بعدم كفاءته.

لكن النواب البرلمانيين، الذين صادقوا بلهفة على تحويل الوقاية المدنية إلى جهاز عسكري العام الماضي، عادة لا يطرحون أي أسئلة إضافية. وخدمة الصالح العام لا تشكل هدفا ذَا أولوية عندما تطرح نصوص على المشرعين وكأنهم هم من بصدد المساءلة.

والآن، ما العمل؟ لم تعد عسكرة جهاز مدني تسمح بتقديم أي إصلاحات مفيدة. لكن من المناسب تدقيق الميزانيات المخصصة من المال العام، وهي توجه لتمويل الوقاية المدنية. هذه هي الفرصة الوحيدة للمشرعين وقد ودعوا أي أعمال مراقبة وداعا أخيرا قبل عام. الجبن السياسي، كما نعهده لدى البرلمانيين، ليس أمرا مستغربا، لكن هم أيضا عليهم أن يتحملوا قسطا من المسؤولية وهم يتركون جهازا ينفلت من المراقبة. هبة، الطفلة الصغيرة وهي تحترق ببطء في سيدي علال البحراوي، فيما رجال المطافئ في الثكنة القريبة يملكون تحفظات أكثر فأكثر في الرد على مكالمات النجدة، رغم تشديد السلطات باستمرار على أن استجابة المطافئ سريعة وفعالة، درس مكرر، لكنه مليء بمشاعر المرارة. الثقة وهي تصل إلى درجتها الدنيا في جهاز يملك نظراؤه سمعة ملائكية في دول أخرى، يجب أن تخضع لترميم سريع. وعلى القادة العسكريين لثكنات الوقاية المدنية أن يفتحوا سجلاتهم للفحص والتدقيق.. أن يفتحوها للأشخاص المدنيين المؤهلين لفعل ذلك، أي المشرعين الذين ينتخبهم الناس في دوائرهم.

إن دعواي واضحة؛ على هذا الجهاز أن يعود إلى أصله، وأن يقطع تلك الصِّلة بينه وبين العسكريين. عليه أن يترك إدارته للمدنيين، ولمحاسبة المدنيين.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي