الزمن الذي كان .. سفر في ذاكرة الإدريسي

15 أغسطس 2019 - 18:40

ما هي الانطباعات التي ارتسمت لديك عن الريف أثناء زيارتك إليه بعد غياب طويل عنه؟

الفرق بين انطباعاتي عن تطوان والمناطق المغربية الأخرى كان فرقا في الدرجة وليس في الطبيعة، فالنظام المغربي كان انشغاله الأول يكمن في الحفاظ على العرش بالقوة، وليس بالتنمية والحكم الرشيد، كما أشرت إلى ذلك في الحلقة السابقة. ولذلك، إذا قمنا بمحاولة تنقيط التنمية، مثلا، لمجموع المناطق المغربية؛ يمكن أن تحصل مناطق المغرب المُنتفِع من الاستقلال على نقطة تتراوح بين 4 و8 من عشرين. ومن المحتمل أن تحصل المناطق المهمشة على نقطة تتراوح بين 3 و6 من عشرين. أما المناطق المغضوب عليها والمقصية من حقوق التنمية، فأعتقد بأن تنقيطها يصعب، إن لم يكن مستحيلا، فقد لا تتجاوز درجة 3 من عشرين. والريف سيصنف حتما في هذه الفئة الأخيرة.

ألم يكن هناك ما يشير إلى عكس ذلك، خاصة أن الريف يقع جغرافيا على بعد أميال قليلة من أوروبا؟

الموقع الجغرافي ليس ضمانا للتفاعل الإيجابي مع حركة التاريخ الفاعل، أو مع جغرافية التنمية الاقتصادية والاجتماعية للغير، حتى ولو كان هذا الغير جارا. فالمغرب القريب جدا من الناحية الجغرافية إلى أوروبا لم يُفِد مما كانت تشهده من دينامية متسارعة في التقدم الاقتصادي والرقي الاجتماعي والثقافي. وأتذكر بالمناسبة ما سجله أحد الدبلوماسيين الأمريكيين المعين كوزير مفوض لبلاده في البعثة الأمريكية بطنجة سنة 1907 إذ كتب: “إن الساعتين التي قضّيتهما كي أعبُر من جبل طارق إلى طنجة نقلتاني من القرن العشرين إلى القرن العاشر”. استحضرت هذا الوصف، بصفة خاصة، وأنا أضع قدماي على أديم الريف. إذ وجدت أنه لم يختلف وضعه كثيرا عن وضعه عشية الاستقلال قبل ثلاثين سنة مضت. بحيث لم يكن هناك ما يشير إلى تطور إيجابي للمنطقة، إذا استثنينا التغيير الذي عرفه نمط البناء في الدواوير والمداشر، وبداية تحرك السكان لبناء مساكنهم في مواقع تقرّبهم أكثر إلى طرق المواصلات والأسواق، وبداية انطلاق التغيير في شكل المعمار الريفي، كفتح النوافذ على المحيط الطبيعي الخارجي، بعدما كان الفتح مقتصرا على الزقاق الداخلي. وأعتقد بأن ذلك تم بفضل الثقافة العمرانية المكتسبة عند مهاجري المنطقة إلى أوروبا، الذين بدأت هجرتهم المكثفة إلى الدول الأوروبية منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، فبدأت تظهر، مع عودتهم في العطل الصيفية، تحولات في بعض التقاليد الثقافية في المنطقة، ومنها تقاليد بناء المساكن العائلية.

بالمناسبة، يُلاحَظ أن أولوية غالبة الريفيين تسيطر عليهم امتلاك مسكن أسري أنيق بالدرجة الأول، هل من تفسير لذلك؟

يجب التنويه بأن التباهي بين المهاجرين الريفيين في ذلك الوقت، وحتى في زمننا الحالي، يستحوذ على موضوعه الأساسي امتلاك السكن الأسري والعائلي الأنيق. ويبقى هذا المسلك في صميم طموحات وسيكولوجية ريفيي الخارج، وسلوك ريفيي النزوح الداخلي على حد سواء. ونعتقد بأن الأناقة، التي يتميز بها لباس الإنسان الريفي ونقاوة حجرات منزله المتواضع، التي سجلها كثير من زوار الريف الأجانب، انعكست في المظاهر الخارجية لبناء السكنات في زمن الهجرة إلى الغرب.

هل تعتقد أن السلطات المغربية لها دراية كافية بما أشرت إليه؟

لا أدري على وجه اليقين. ولكني أعتقد بأن الزائر للريف اليوم، سواء أكان من أجل السياحة، أو من أجل إعداد تقارير معينة، سيعود بانطباع مفاده أن الريفيين لا يعانون الفقر أو العوز، كما يعاني منه سكان الأطلسين مثلا، بسبب مظاهر الرفاه البادي على بنايات مساكنهم المنتشرة في دواويرهم ومداشرهم، قبل المراكز الحضرية. خاصة إذا كان الزوار غير ملمين إلماما أنثروبولوجيا وسوسيولوجيا بمقومات أو دعامات الثقافية المحلية، وبالسيكولوجية الاجتماعية للساكنة. ومن ثمة يمكن أن تتجه انطباعات الزوار، أو تقارير أولئك الذين لا دراية لهم بالوقائع الثقافية للريفيين، إلى إصدار أحكام على ساكنة الريف لا تتوفر على أدنى شروط النزاهة الأخلاقية أو الموضوعية العلمية.

ويمكن أن يدعموا تقاريرهم التي تشير إلى غياب الفقر عند الريفيين، بغياب ممارستهم الاستجداء والتسوّل، مع أن ممارسة التسول وانتشاره يعد ظاهرة مغربية بامتياز. في حين يسجل التسول في الريف في صنف العار الكبير. وكانت أمهاتنا وآباؤنا يروون لنا أن بعض السكان في أربعينيات القرن الماضي، زمن المجاعة الكبرى التي ضربت الريف بدرجة أكبر من باقي مناطق المغرب الأخرى، الذين ربما عجزوا على النزوح إلى المناطق الداخلية الأقل مجاعة، أو الهجرة إلى الجزائر، كانوا يغلقون بيوت غرف منازلهم ببناء نوافذها وأبوابها عليهم وهم في داخل تلك الغرف، انتظارا للموت داخلها بدل ممارسة التسول.

وأتذكر أنه عقب حدوث زلزال الحسيمة 2004 أخبرني أحد معارفي بأن أخلاق الريفيين قد فسدت، وحين سألته عن مظاهر فسادها، أفادني بأنهم أصبحوا يتسولون في الشارع. فقلت له هذا خبر مفرح يا صديقي وليس العكس، لأن الريفيين أصبحوا بذلك كباقي المغاربة الآخرين، وأن امتلاك القدرة على التسول يعد درسا أساسيا من دروس ممارسة وظائف تيسير التواصل والتعامل مع الآخرين. ثم ذكّرته بما جاء في كليلة ودمنة “بأن العود الذي لا ينحني ينكسر ولا يصنع منه القوس”، قبل أن أضيف هل تعرف لماذا أُقصي الريفيون من تولي مناصب مهمة في الحكم؟

وهناك استثناء آخر يتعلق بمشاعر الريفيات والريفيين، فقد أصبح طموح الهجرة إلى أوروبا مسيطرا على تفكيرهم وعلى حلم الحصول على الجواز الأخضر. وكانت أغاني الصبايا في الحقول والمراعي، وفي حفلات الزفاف، وفي أثناء الاحتفاء بمواسم الأولياء، تدور، وتتناول، بل تتركز على التغزل بالحبيب الذي عبر البحر، الذي عاد صيفا مالكا سيارة جميلة، بعد أن كان يسوق قبل عبور البحر حمارا في الريف. وانعكست أحلام عبور البحر على تغيير بعض تقاليد الأعراس الريفية. إذ ظهرت عادة مستحدثة عند العريس وعروسه. فقبل أن تلتحق العروس ببيت زوجها يلتحق بها عريسها، ويمتطيان معا سيارة يقودهما سائقها بقرار متفق عليه سلفا، إما إلى المطار، وإما إلى الميناء، قبل أن يتوجه بهما إلى منزل العريس. وندرك بلا شك إيحاءات هذا السلوك ورمزيته.

وفي زاوية أخرى، لاحظت انتقال الأهازيج الريفية، المعروفة بـ”إزلان”، أو الموروث المحلي المعروف بـ”رالاّ بويا” إلى أغاني ذات حمولة اجتماعية وسياسية، أو حمولة الغربة والحنين إلى الوطن الذي هجّر أبناؤه إلى شتات أوروبا. وظهر فنانون عبّروا عن هموم السكان في الحرية والعدل والكرامة. مثلهم في ذلك كمثل ناس الغيوان، أو لمشاهب، أو جيل جيلالة، أو غيرهم من موجة الفنانين الملتزمين بالتعبير عن آلام الناس وآمالهم، وترجمة طموحات عموم المواطنين إلى حياة أجمل وأسعد.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي