المليون الضائع

23 أغسطس 2019 - 18:00

تحوّل المغرب، منذ مساء الثلاثاء، وبمجرّد إنهاء الملك محمد السادس إلقاء خطابه الرسمي بمناسبة ذكرى ثورة الملك والشعب، إلى ما يشبه قاعة دردشة ضخمة مخصصة كليا وحصريا لموضوع التكوين المهني الذي حثّ الملك الشباب على التوجه إليه أكثر، بدل التمسّك الأعمى بمسار البكالوريا والتعليم الجامعي. وقبل أن نخوض في الموضوع، لا بد من تسجيل ملاحظتين اثنتين؛ إحداهما إيجابية والثانية سلبية.

الملاحظة الإيجابية أن خطاب الملك يخلّف مثل هذه النقاشات الصاخبة والكبيرة، التي يشارك فيها الجميع، مواطنين عاديين وإعلاميين وأكاديميين وسياسيين وخبراء… ليس في الأمر أي تلميح إلى شعبية الملك، فهذا أمر مفروغ منه، بل المقصود هو استمرار قدرة الشأن السياسي -والملك يتحدّث بصفته السياسية قبل أي صفة أخرى- على التعبئة والإثارة وفتح النقاشات الكبرى، وإن كانت غير مؤطرة ولا محتضنة من لدن الإعلام، خاصة منه العمومي، كما يفترض الدستور والقوانين ذلك.

أما الملاحظة السلبية، فهي ما تنطوي عليه هذه الوضعية التي بات معها الملك شخصيا ومؤسساتيا، مع كل ما يحمله من رمزية وعمق تاريخي ومكانة دينية، يضطر إلى الخوض في مسألة فرعية مثل تحديد التكوينات التي تسهّل ولوج التشغيل أكثر. المفروض أن مثل هذه الأمور التفصيلية تحددها سياسات عمومية متفرعة عن اختيارات سياسية واقتصادية واجتماعية وحضارية كبرى، لا شك أن الملك يسهر على وضعها في إطار المجلس الوزاري، لكن تنزيلها ومناقشها وخوض المعارك الجدالية حولها من مسؤولية الحكومات والبرلمانات والأحزاب والنقابات…

هل ندرك معنى أن نضطر إلى شغل ملك يجرّ خلفه تراكم 20 سنة من الحكم وقرونا من تعاقب أجداده السلاطين، وفوق كتفيه مسؤولية ضمان استمرارية هذه الدولة وحماية مصالحها الاستراتيجية داخل عالم مضطرب، بملف يفترض أنه يخضع للأقلمة والتعديل تماشيا مع تقلبات السوق وحاجيات المقاولات؟ هل نعي معنى أن يعتبر مواطن معيّن، سلك مسارا تكوينيا ما، أن الملك شخصيا مسؤول عن نجاح مساره المهني الشخصي أو فشله؟

لنأتِ الآن إلى صلب الموضوع؛ فإذا كانت بعض الفضاءات الرقمية أصبحت تحبل ببعض المستويات غير اللائقة من النقاش، حول مضامين الخطب الملكية وشخص الملك، فإن الحل، في المقابل، ليس هو الهروب من الموضوع اتقاء لشر الحشر مع هؤلاء، وإن كان المسيئون بينهم مجرّد قلة مقارنة بمن يمارسون حقهم الكوني في التعبير.

دعونا نسجّل، أولا، أن الفكرة المركزية للخطاب الملكي الأخير باتت من شبه المسلمات، ولا أحد يمكنه أن يشكك في جدوى تلقيح المسارات التعليمية بجرعات من التأهيل المهني والممارسة التطبيقية والتدريب الميداني، حتى يصبح المتعلّم قادرا على الجمع بين المعرفة وبين الولوج السهل والسريع للحياة المهنية.

لكن، أن يفسّر البعض الخطاب على أنه دعوة إلى العودة إلى تلقين واسع النطاق للحرف اليدوية البسيطة والأولية، وربما أسهم محررو الخطاب الملكي في تفسير كهذا، فإن الأمر يحتاج إلى وقفة.

لا يوجد عاقل في عالم ما بعد الجيل الخامس من شبكات الاتصالات يمكنه أن يفكّر في جعل الأعمال والحرف اليدوية البسيطة أساسا لأي تقدّم اقتصادي أو اجتماعي. صحيح أن هناك حرفا وصناعات تقليدية تتطلّب الدعم والتثمين والحماية من الاندثار، لكن قاطرة العصر تتجه اليوم بسرعة البراق نحو مهن ذهنية وفكرية ستدوس في طريقها جلّ المهن والحرف اليدوية التي تعرفها البشرية اليوم.

إن البشرية التي تدخل اليوم عصر الذكاء الرقمي، بمعنى البيوت الذكية والسيارات الذكية والمدن الذكية، والتدبير الآلي لمختلف الأنشطة البشرية، والحلول المطبقة عن بعد، والبرمجة، وتعويض الإنسان بالآلة الرقمية الحديثة… لا يمكنها أن تفكّر بعد اليوم في الاستثمار في المهن الحرفية واليدوية وتعتقد أنها ستحقق النمو.

لنتصفح تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي للعام 2018، والذي يحمل عنوان The Future of Jobs (مستقبل الوظائف)، لنقف على عدد المهن التي ستختفي قبل سنة 2022، وكلّها مهن يدوية، من قبيل عمّال التجميع في المصانع، وموظفي خدمة العملاء، وسكرتاريا الإدارة، ومديري المخازن والحسابات… فهذه كلّها وظائف ستصبح من نصيب الآلات، ليرتفع الطلب، في المقابل، على مهن مثل تحليل البيانات وتطوير التطبيقات، وتدبير الانتقال الرقمي للمقاولات، ومحترفي التسويق الرقمي…

إن الملك وهو يعبّر علنا وصراحة عن «ألمه» في خطاب العرش، ويسحب أي تسامح مع الأخطاء في خطاب 20 غشت، يستحضر معضلة مليون ونصف مليون شاب مغربي، في سن ما بين 15 و24 سنة، ممن لا يعملون ولا يدرسون ولا يخضعون لأي تكوين. وهو الهاجس نفسه الذي يمكننا استنتاج حضوره في ذهن الملك وهو يقرر تطبيق الخدمة العسكرية لإنقاذ جزء من هؤلاء الشبان، إلى جانب الـ300 ألف طفل الذين يغادرون المدرسة سنويا دون أي شهادة، من الضياع. إننا، وبكل أسف، مضطرون إلى العودة إلى الملاحظة السلبية التي أثرتها في البداية، لأن إهدار هذه الثروة البشرية الضخمة، التي يسابق المغرب الزمن لاستعادتها، هو نتيجة لسياسات تدبيرية غير ناجعة، كي لا نقول فاشلة تماما.

إن هؤلاء المليون شاب، وجلّهم من مواليد الألفية الحالية وعهد الملك محمد السادس، هم عجزنا التنموي الحقيقي، وليس تلك النسب الهزيلة من العجز التي تعلنها الحكومة سنويا. ومن كان يحبّ المغرب وملك المغرب، فليصارح المغاربة وملكهم بقول الحقيقة كاملة. ونصف هذه الحقيقة، على الأقل، هو في فشلنا في إقامة دولة القانون والمؤسسات والعدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وإن لم نتدارك هذا الوضع فورا، فإننا غدا سنكون أمام مليون جديد من المهددين بالضياع.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي