بلال التليدي: في «الوليمة» وأثرها السياسي

29 نوفمبر 2019 - 20:22

دعونا ندخل إحدى الممارسات الشهيرة لمشرحة التحليل. فقد جرت العادة أن تقدم بعض الأحزاب على استعمال المآدب والإكرامات الشعبية أداة للاستقطاب السياسي.

تنطلق هذه الممارسة من خلفية أن «الوليمة» تقوم تقريبا، بالدور عينه للإقناع السياسي، وأنه يمكن أن تكون بديلا عن السلوك السياسي العقلاني الذي يربط التأييد أو النبذ بالإنجاز أو التخاذل عن مقتضيات التعاقد السياسي بين الحزب وقواعد الناخبة.

ما يدعو إلى دراسة هذه الظاهرة، ليس هو سلوك الأحزاب التي ألفت إنتاج هذه الممارسة، بل حتى القوى الديمقراطية التي تحتج عليها، ذلك أن احتجاجها في الجوهر، يتضمن إقرارا بأثرها في التأثير في السلوك الانتخابي والسياسي للمواطنين.

لكن الظاهرة التي تجري على الأرض لا تتسم بصفة الاطراد والدوام، فالولائم لا تقام في المنطقة بشكل مستمر، وأي ثري يدخل عالم السياسة، لا يمكن أن يضمن وتيرة مطردة من عقد الولائم، وقصارى ما يملكه أن يرتب جدولا محدودا للولائم ببداية ونهاية في الزمن.

لنسائل العناصر المؤثرة في الظاهرة، وهل يتعلق الأمر بثقافة المستجيب للوليمة، وقابليته للاستقطاب من هذه الطريق، أم بأثر الوليمة ذاتها، أم بالصورة التي يتم تداولها عن السياسي «صاحب الولائم»، ودرجة الأساطير التي تبنى عن علاقاته النافذة وقربه وقدرته على تحقيق الحاجات؟

الجواب العلمي يفترض القيام بدراسات أنثروبولوجية عن وظيفة الوليمة في السياسة، ودورها في الاجتماع السياسي، لا سيما بنياته القبلية، والتشكيلات التي انبثقت عنها، وتطورت في سياق العصرنة.

لكن الاستقراء الاجتماعي يقدم معطيات مهمة لفهم جزء مهم من الموضوع، فالأمر يتعلق بنوع فاخر من الطعام، لم يستأنس به الذين يرشحون للاستقطاب الحزبي، وهو ما يضمن في الحد الأدنى حضورا كثيفا لجمهور دافعه الرئيس اغتنام الفرصة لـ»افتراس» هذا الطعام.  ولذلك، يزول إشكال ربط الاستقطاب السياسي بدوام الولائم، لأن الذين يديرون هذه الظاهرة، يعرفون أن ما يميز جمهورهم هو اغتنام الفرصة، ولذلك يعملون على أن يرسخوا في تمثلاتهم أن مرشحهم أو حزبهم هو الوحيد الذي جعلهم يتذوقون هذا الطعام الذي لم يسبق لهم أن تناولوه.  وشخصيا، استمعت إلى عدد كبير من أفراد هذه الشريحة في حملات انتخابية متعددة، ينتجون خطابا سياسيا، يقوم على فكرة أن الأحزاب تتشابه، وأنهم ماداموا لم ينتفعوا بشيء منها، فعلى الأقل الاقتراب من أحزاب الإدارة، يجعلهم يفوزون بهذا «الخير»!

الحملات الانتخابية واللقاء بالجمهور يعطي فكرة أخرى، عن أثر الوليمة، فالثقافة القبلية لاتزال تحتفظ بتقاليد راسخة تتسم بكثير من التعقيد عن الجمع بين بـ»العشاء» و»الكلمة»، فالاستقطاب يتوجه أولا، للذين يحملون مواصفات شيخ القبيلة أو «الجماعة»، ممن يتولون جمع الجماعة أو القبيلة للوليمة، حيث تشكل مناسبةلإعطاء «الكلمة»، وضمن هذا النسق الثقافي، يمكن أن ندرس أثر الوليمة، وما إذا كانت مدخلا لـ»الوعد»، أو مجرد فضاء لترسيمه،  أو شكلا من أشكال الوساطة التي يقدم فيها شيخ «الجماعة» الحزب أو المرشح لأفراد الجماعة ويضعهم أمام مسؤولياتهم.

ومع أن هذه التقاليد راسخة في المجال القبلي، إلا أن المؤثر ليس هو أثر الوليمة، ولا المناخ الذي ينعقد فيه الوعد، إنما هو الصورة التي يتم تداولها وتسويقها عن الحزب أو المرشح الذي أقدم على هذه الوليمة، ففي الثقافة الشعبية، غالبا ما يتم النظر إلى القائمين على هذه الولائم بنوع كبير من التأثر والإعجاب، وتنسج عنهم أساطير كثيرة لا تصدق عن النفوذ والحظوة والقرب والمساعدة الاجتماعية والقدرة على التوظيف، وغيرها من الحكايات التي تفعل فعلها وسط محيط اجتماعي يتطلع لأي أمل منقذ.

البعض يفترض أن التحولات المجتمعية، أضحت تبني الحصانة ضد الذين يدخلون الوليمة في السياسة، ويتخذونها وسيلة للاستقطاب السياسي، وهذا صحيح بالنسبة إلى عدد من الشرائح التي ارتقت في مستواها الاجتماعي أو ارتفع منسوبها الثقافي، أو امتلكت قدرا مهما من الوعي السياسي، أو ارتبط أفقها بتطلعات القوى الديمقراطية، أو بأحلام القوى الراديكالية، لكن، بالنسبة إلى الشرائح الأخرى، فالوليمة لاتزال تؤدي دورها، ولذلك، لم تستغن الأحزاب القريبة من السلطة عن توسلها، بل لم تستغن السلطة نفسها عنها، ليس لأن هذه الأحزاب تعدم أدوات أخرى للاستقطاب السياسي، ولكن لأنها تدرك فعالية هذه الظاهرة، وتقدر أنه من الحمق التضحية بها، لا سيما في السياق الذي تكون فيه أكثر نجاعة.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي