يونس مسكين يكتب: خلا دارنا

27 يناير 2020 - 19:20

عامان كاملان، من يناير 2018 إلى يناير 2020، تطلّبهما صدور تقرير رسمي احتاج رئيس الحكومة، سعد الدين العثماني، فيه إلى وضع يده في يد رئيس مؤسسة دستورية من حجم المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، كي يتمكنا معا، وبعد هذه المدة كلها، من رفع الغطاء ببضعة مليمترات عن قِدر أسود اسمه قطاع العقار.

ورغم الخلاصات الخجولة التي انتهى إليها التقرير، لكونه يظل وثيقة رسمية مهما علا قدر النوايا الحسنة التي تقف وراء صدوره، فإنه كان كافيا لكشف حجم المصيبة المتمثلة في الأضرار الفادحة التي تكبدها المغرب والمغاربة جراء الاختلالات التي يعرفها هذا المجال.

سوف لن أتعسّف على التقرير، أو أحاول استنطاقه بغير ما نطق، لكن وبما أن المناسبة شرط، فإن ما خلصت إليه هذه الوثيقة من تشخيص أسود، يجد في أرض الواقع ما يكفي من قرائن لكي أصفه بالجرم والكارثة الوطنية متكاملة الأركان، التي لو صدقت نية الدولة في الإصلاح وكشف الحقيقة، لكان اندمال جرح العقار وحده كافيا لتقويم اختلال نموذجنا التنموي، وبعث الأمل من تحت رماد اليأس، وليتحوّل ملايين المغاربة إلى مشاركين في جلسات استماع لا تنتهي إلى ضحايا هذا الجرم.

وحين نقول إن الموضوع ينطوي على جرم حقيقي أكثر من مجرد اختلالات تدبيرية وقانونية، لا بد لنا من تحديد مرتكبه، أو رسم ملامحه على الأقل. وبينما تسعف لغة الخشب في الهروب من ذلك عبر الاختباء وراء تعدد المتدخلين وتعقد المشاكل… فإن لغة الصراحة تحتم القول إن ثلاثة أطراف رئيسة تقف وراء تخريب نموذجنا التنموي، وتفقير الطبقة المتوسطة، ونهب أموال البسطاء، هي الدولة أولا، بكل ما يحيل عليها من حكومات وتشريعات وأنظمة ومنتخبين، ثم مجموعات انتهازية من أغنياء العقار ثانيا، الذين «حلبوا» المغاربة إلى آخر قطرة، وجمعوا بين ريع العقارات العمومية والدعم السخي وغياب الشفافية والمنافسة في السوق، ثم البنوك ثالثا، التي لم يعد سرا أنها كائنات طفيلية تعيش على ظهور المغاربة محدودي الدخل، ولا تساهم في تمويل الاستثمار المنتج.

فالدولة تعاملت مع المواطن، خاصة منه الأجير في القطاعين العام والخاص، كـ«حمار الطاحونة» الذي يسهل «حلبه» بترسانة من الضرائب والرسوم المرتبطة بمشروع لا محيد عنه في حياة المغربي، أي امتلاك «قبر الحياة». صديق يشتغل مقاولا صغيرا في مجال العقار، سألته عن تقديره لقيمة ما تجنيه الدولة من وراء مشروع مواطن أراد امتلاك بيت أو شقة، شرح لي كيف أن الدولة تضع يدها في جيب المواطن قبل أن يشرع في تحقيق مشروعه.

فبمجرد ما يشتري المواطن قطعة الأرض التي سيبني فوقها بيته، أو المنعش العقاري الأرض التي سيبني عليها الشقق السكنية، تحصل الدولة على 5 في المائة من قيمتها ضريبة، ثم 1,5 في المائة رسما لفائدة المحافظة العقارية، وإذا كان تمويل عملية الشراء جرى عبر قرض بنكي، فعلى المشتري دفع 1,5 في المائة أخرى لتسجيل الرهن لدى المحافظة.

بعد ذلك، تبدأ رحلة الطواف بين مكاتب المهندسين ومصالح التراخيص، من الوكالة الحضرية، ثم الجماعة، ثم رسوم استغلال الملك العمومي… وبعد انتهائه من البناء، تبدأ رحلة طواف ثانية بين المهندس الطبوغرافي ومصلحة المسح العقاري ثم المحافظة العقارية من جديد، لتحيين قيمة العقار بعد بنائه ودفع رسوم جديدة، أي 1,5 في المائة جديدة من قيمة العقار في السوق، وليس كلفة بنائه الحقيقية، و100 درهم الشهيرة للحصول على شهادة الملكية…

هذا الجحيم الذي يتحتم عبوره يدفع غالبية المواطنين إلى شراء مأوى لأسرتهم بشكل مباشر عوض بنائه، وهنا سيكون عليهم أولا دفع مجموع هذه الضرائب والرسوم التي دفعها المنعش العقاري بأموال اقترضها في الغالب من البنك، أي أن المشتري سيدفع قيمة الرسوم والضرائب وأرباح البنك ثم هامش ربح المنعش.

وإذا استثنينا بعض المقاولين الصغار والمتوسطين ممن يواجهون حيتان السوق وفساده وألغامه، ويشغلون الآلاف من أبناء الشعب في مشاريع قد تتحول إلى كوابيس بسبب ابتزاز مصدري التراخيص أو مؤامرات الخصوم؛ فإن خلفية المشهد تنطوي على كائنات أقرب إلى أغنياء الحرب، ممن اجتمع فيهم النفوذ والسلطة، أو القرب منهما، وريع العقار العمومي، والاستثناءات والتسهيلات البنكية، وراكموا ثروات بأرقام فلكية. أجزم بأن القسم الأكبر منها انتهى مهربا نحو الجنات الضريبية وبنوك تبييض الأموال في الخارج.

أما البنوك المحلية، فتلك قصة أخرى. ليتصوّر معي المسؤول، الذي يفكّر حاليا في كيفية تصحيح النموذج التنموي، في المشهد الآتي؛ مواطن بسيط صرفت عليه أسرته المتواضعة طيلة عشرين عاما من الدراسة والتدريب ليحصل على شهادة ويعثر على وظيفة لنقل إنها محترمة بأجر متوسط قد يصل إلى 10 آلاف درهم.

حين سيفكر أخونا في المواطنة هذا في شراء شقة بسيطة بمساحة 70 مترا مثلا، بقيمة 50 مليون سنتيم في مدينة متوسطة، هل تعلمون كم سيدفع للبنك؟ سنفترض أنه موظف محظوظ يوفر له مشغله اتفاقية استثنائية مع بنك شريك، ليحصل على تمويل كامل وبنسبة أرباح منخفضة.

هل تعرفون ما هو التمويل الكامل؟ إنه بكل بساطة هو الحصول على قرض للاستهلاك بقيمة 10 ملايين على الأقل، كي يدفعها للمقاول خارج العقد، أي في السوق السوداء، مقابل أقساط بألفي درهم شهريا طيلة خمس سنوات. ثم بعدها سيكون مواطننا المقبل على الزواج وتأسيس أسرة… مطالبا بإضافة كلفة أتعاب الموثق ورسوم المحافظة والتسجيل، وكلفة تأمين القرض لدى شركة تابعة للبنك نفسه، ولنقل إنه سيحتاج إلى اقتراض 45 مليون سنتيم أخرى، يدفع مقابلها 3000 درهم على الأقل قسطا شهريا طيلة 20 عاما. ليجد مواطننا نفسه بعد عمر طويل وأمراض عضوية ونفسية، قد دفع للبنك ضعف ثمن الشقة الذي يساوي بدوره ضعف الكلفة الحقيقية للعقار…

المضحك المبكي في هذه القصة، أنه بينما كان خبراء المجلس الاقتصادي ينكبون على تشخيص أمراض العقار في المغرب، وانعكاساته الاقتصادية والاجتماعية، لمحاولة رتق الفتق، كان أحد آخر حيتان القطاع يمارس «كاميرا خفية» علينا جميعا، شملت الدولة ومؤسساتها والمجتمع ونخبه من ممثلين وإعلام، ليسوّق مشروعا عقاريا مغريا جعل المئات يضعون مدخرات عمرهم في صناديقه طمعا في عقار «باب دارنا»، فيما كانوا في الحقيقة يساهمون في جنيريك نهاية مسلسل حزين عنوانه «خلا دارنا».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي