سليمان: البوكر لا تصنع ولا تهدم ولا تعطي شهرة! -حوار

09 مارس 2020 - 22:00

جاوزت جائزة الرواية العالمية للرواية العربية (البوكر)، في عمرها، سنتها الثالثة عشرة اليوم. كيف تقيمون الجائزة عبر مسارها هذا؟

فعلا، الجائزة هي الآن في الدورة الثالثة عشرة. إذ بدأت، أول الأمر، كفكرة لدى بعض المثقفين العرب، بمحاولة لإنشاء جائزة تختص بالنوع الروائي، حيث جرى التواصل مع بعض الجهات التي تولت تمويلها في النهاية. تمحورت الفكرة، في البداية، حول التعاون مع جائزة ذات تاريخ عريق وطويل في ميدان الرواية، ووقع الاختيار على « مان بوكر »، التي تسمى « بوكر » الآن. من هنا، جرى استخدام منظومة حوكمة هذه الجائزة لتنظيم الجائزة العالمية للرواية العربية، التي تعرف، أيضا، بـ »البوكر ».

يكمن هدفنا في خلق جائزة للرواية العربية، لا تقتصر على قطر من الأقطار، لتشجيع النشر الروائي والقراءة الروائية، ثم ترجمة النصوص الفائزة إلى اللغات الأجنبية، خاصة الإنجليزية، حيث تتكفل إدارة الجائزة بذلك، كما تتكفل بمساعدة نصوص القائمة القصيرة على ترجمة رواياتهم. الغاية إذًا هي دعم الرواية العربية، وتشجيع قراءتها، والتشجيع على الترجمة إلى اللغات والثقافات الأخرى.

ما طبيعة الفائدة التي تستفيدها البوكر العربية من جائزة الـ »المان بوكر » البريطانية؟

*** كما قلت، لهذه الجائزة أثر وحضور كبيران في عالم الرواية المكتوبة باللغة الإنجليزية. فأن يرتبط اسمك باسم جائزة بهذه العراقة، سيعطيك بالتأكيد دفعة قوية إلى الأمام في البداية. لكن الأهم من هذا، في الحقيقة، هو رمزية هذه العلاقة مع البوكر البريطانية. كما أن للجائزة حوكمة وقوانين وأطر؛ إذ كان الهدف هو أن نستفيد من هذه الأطر وطريقة العمل. والواقع أن اختيار المرشحين ضمن لائحة طويلة، ثم في لائحة قصيرة، والإعلان عن الفائز بعد ذلك، ومنهج اختيار اللجنة والإعلان عنها، كلها أمور تروم خلق حالة من التشويق وأفق تلقٍّ ينتظر التتويج والفوز بالجائزة في النهاية. فالموضوع، إذًا، هو موضوع استفادة من حوكمة وإجراءات وخبرة طويلة، ثم الاستفادة من شبكة وكلائها الفاعلين في مجال النشر في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وشبكة تواصلها مع المترجمين للرواية الإنجليزية إلى لغات أخرى. غير أنه أصبحت لجائزتنا الآن منظومة خاصة ليست كمنظومة جائزة « مان بوكر »، وصارت إجراءاتها تختلف عنها كثيرا. لكن بينهما تقاطعات كثيرة.

هناك غموض في تعريف جائزة « البوكر ». هل هي جائزة أدبية، أم نقدية، أم تقديرية، أم تشجيعية، أم هي جائزة موجهة للاستهلاك الإعلامي والجماهيري…؟

*** جائزة البوكر العربية ليست جائزة تشجيعية، ولا تقديرية، وإنما، هي جائزة تعطى لأفضل عمل روائي من الأعمال التي تتوصل بها إلى جائزة التحكيم في كل دورة من الدورات. والجائزة موجهة، في اعتقادي، إلى تشجيع القراءة. ومن هنا، فهي جائزة للقراء أيضا. صحيح أن النقاد يشاركون في إفراز القائمتين الطويلة والقصيرة، إلا أن اللجنة تتألف من قراء مثقفين يقرؤون الرواية ويعرفون عنها الشيء الكثير، وإن لم يكونوا أكاديميين أو أساتذة متخصصين في جنس الرواية، لكنهم يتمتعون بذائقة وحضور في مجال الإعلام، إلخ.

إذا، ليست الجائزة تشجيعية، ولا تقديرية، كما قلت، وليست موجهة للنقاد رغم مشاركتهم في إفراز المرشحين في اللائحتين الطويلة والقصيرة، بل هي جائزة للقراء. إذ أعتقد أن في هذا سر من أسرار نجاح الجائزة، كونها موجهة للقراء أولا، حيث نرى ذلك من خلال التفاعل مع الجائزة في كل أرجاء الوطن العربي.

بهذا الخصوص، هل استطاعت الجائزة أن تجعل من الرواية ديوان العرب الجديد؟ وكيف تقيم أثر الجائزة في القراءة وانتشار الرواية؟

*** في الواقع، يجب أن نتصف بالتواضع عندما نحكم على الجائزة، حيث لا تستطيع أي جائزة، بمفردها، أن تخلق هذه الحالة. هناك جوائز عربية مهمة هي الأخرى، وهي تستطيع أن تخلق هذه الحالة. لكن ما الذي تقدمه جائزة البوكر؟ سأقول ما يلي من خلال الإحصائيات المتوفرة لدينا: قبل البوكر، كان الناشر العربي يطبع ألف نسخة من الكتاب الفائز بالجائزة. وإذا باع ثلاثة آلاف نسخة منه، فإنه يصير من الكتب الأكثر مبيعا. نحن نعرف الآن أن بعض الروايات التي ترشح في القائمة الطويلة، تصل إلى الطبعة الثالثة أو الرابعة، وترتفع طبعاتها إلى خامسة وسادسة وسابعة إذا دخلت غمار المنافسة في القائمة القصيرة. وتتجاوز الطبعة العاشرة إذا فازت بالجائزة. لنأخذ مثلا رواية « عزازيل » ليوسف زيدان، فقد فاق عدد طبعاتها ثلاثين طبعة، حيث مازالت تحظى بانتشار واسع، رغم أنها فازت بالجائزة في دورتها الثانية؛ أي منذ أكثر من عشر سنوات. من هنا، خلقت الجائزة مساحة للقراءة وأفقا للتلقي، حيث يترجم هذا الأمر من خلال عدد النسخ التي تباع. وإذا أخذنا البيع كمعيار، وقلنا إن كل نسخة يقرأها قارئان أو أكثر، سنجد أن الرواية الفائزة تحقق قراءات كبيرة جدا، حيث يعود ذلك إلى الحالة التي خلقتها الجائزة. كما نلاحظ، نحن كمجلس أمناء، أن نواد للقراءة بدأت تنشأ في بعض الدول، وهي تتلقى الروايات، خاصة المرشحة منها ضمن اللائحة القصيرة، حيث تقرأها وتناقشها، بل وتفرز الفائز. كما نحرص أن يشارك من يرشحون ضمن القوائم القصيرة في معارض الكتب في العالم العربي وخارجه، في فرنكفورت ولندن، إلخ. ونرتب أيضا، بفضل الترجمات، زيارات للفائز ولكتاب القوائم القصيرة إلى جامعات في أمريكا، حيث بدأنا ذلك في الدورة الحالية.

هناك عمل كبير تقوم به الجائزة داخل الوطن العربي وخارجه. ويتجلى ذلك، مثلا، من خلال الإعلان عن أسماء اللائحة القصيرة سنويا من مدينة مختلفة، حيث نروم أن نأخذ الجائزة إلى البلدان العربية كلها. إذ كنا في الدار البيضاء سنة 2015، وجئنا إلى مراكش هذه السنة. فنحن نطوف كل البلدان العربية، حتى نأخذ الرواية والجائزة إلى القراء. وهذا يخلق حالة اهتمام بالرواية وطنيا وعربيا بصورة عامة. أعتقد أنه إذا أخذنا عدد الروايات التي يطبعها الناشرون، وعدد نوادي القراءة، وعدد الزيارات التي نرتبها سنويا، والحضور في معارض الكتاب في الوطن العربي وخارجه، سنلاحظ الأثر الذي تحققه الجائزة- وجوائز أخرى طبعا-، وسنجد أن الرواية هي ديوان العرب اليوم فعلا. ثم إن الرواية كعمل تخييلي، في رأيي، تكشف عن المستور أحيانا، وتجعل المجتمع تحت « الرادار »، وتتحدث بالألغاز وغيرها عما يدور في خلدات القراء العرب. إذ يستطيع الأدب أن يصل إلى خبايا النفوس، ويمكنه أن يصل أحيانا إلى مناطق تعجز الكتابة التجريدية عن الوصول إليها، كونها قد تتعرض للرقابة والملاحقة، إلخ. كما تتجاوب الرواية، بطبيعتها، مع الوضع الذي تعالجه، وتتجاوزه. نرى هذا في روايات اللائحتين الطويلة والقصيرة.

في المقابل، ارتبطت الجائزة بجدل كبير، كاد يسيء إلى سمعتها أحيانا. في نظرك، هل هذا الجدل مقصود، غايته الدعاية للجائزة والمساهمة في انتشار الأعمال الفائزة إعلاميا؟ أم هو مجرد ضجيج إعلامي يرافقها في كل دورة؟

*** نحن لا نصنع هذا الجدل، ولا نشارك فيه كمجلس أمناء. لكن نتائج لجان التحكيم هي التي تصير مادة لهذا الجدل. نحن نعتقد أن الجدل والنقاش حول الجائزة، مع أنهما لا يصيبان الحقيقة أحيانا، يخلقان حالة من الاهتمام بالأعمال الروائية. إننا لا نريد، في الحقيقة، أن تصبح الجائزة أعظم من الرواية العربية. بل إن الرواية أكبر من الجائزة، حيث نريدها أن تبقى أكبر من كل من الجوائز، ولا نريد أن يُقال إن الجائزة أعظم من الأدب، وإن الأدب سيموت بموت جائزة البوكر. لا، الرواية أعظم من الجائزة!

لكن هذا القول يتناقض، ربما، مع واقع مفاده أن الجائزة أخذت توجه القراء نحو الروايات الفائزة، وتغطي على روايات لم ترشح، أو لم تستطع لجان التحكيم أن تفرزها ضمن اللائحة الطويلة…

*** هذان أمران مختلفان. ليس هدفنا أن نوجه القارئ، بل نخبره أن لجنة التحكيم تعتقد، من وجهة نظرها، أن روايات بعينها هي الأفضل من بين الروايات التي وصلت إليها. هي تصدر حكما، ولا تقول بالمطلق. لا تقول إن الرواية الفائزة هي الرواية العربية الأفضل في هذا العام. لا يمكن أن تقول ذلك! نقول إن لجنة هذه السنة، بعدما اطلعت على الروايات التي وصلت إليها، تعتقد، استنادا إلى بعض المِحَكَّات والمؤشرات- المعايير إن أردت ذلك- أن هذه هي أفضل الروايات التي وصلت إليها. قد يكون هناك روايات أفضل منها بكثير، ولا نعرف عنها شيئا. لكن الزمن هو الذي سيكشف الأفضل في النهاية. في مختلف الثقافات الأدبية، هناك روايات تفوز وتُنسى؛ وهناك روايات لا تتقدم للجوائز، لكنها تصنع مسارات عظيمة في الآداب. أعتقد أننا يجب ألا نحمل الجوائز أكثر مما تحتمل ومما تستحق أحيانا.

لا أظن أن البوكر هي التي تصنع وتهدم وتعطي شهرة… لا، لا. نحن ننأى بأنفسنا عن ذلك. والأهم من هذا، ورغم أن هناك معايير ومحكات ومؤشرات تحدد اختيار اللجان، لو اختلفت اللجان، لاختلفت إفرازات قوائم هذه اللجان. وقد تحصل فيها تقاطعات. هناك، إذا، عملية نسبية، تفيد بانتفاء الإطلاق الكامل في قائمة من القوائم. نحن نريد أن يقرأ القارئ العربي ما تفرزه الجائزة وما تفرزه جوائز أخرى، أن ينطلق إلى أبعد من ذلك. لكن الذي يحصل هو أن القارئ العربي لا يملك كل الوقت حتى يقرأ كل ما هو موجود في الدنيا. فهو يريد من يدله على عناوين. من هنا، نهديه هذه الروايات، ونقول له: « هذه الروايات تستحق أن تُقرأ، ووقتك جدير بها! » وهكذا، يستنير القارئ بهذه الأحكام. ثم ما الذي يحصل؟ تصير هذه الجوائز هي موضوع الحديث في الصحافة والمواقع الاجتماعية وغيرها، حيث تخلق حولها حراكا. وبطبيعة الحالة، هناك روايات أخرى يصرف النظر عنها- للأسف الشديد. غير أني أنبه القراء ألا يصرفوا النظر عنها؛ فقد يلتقطها قراء ونقاد آخرون وجوائز أخرى.. فمن طبيعة الجوائز عدم قدرتها على رصد كل ما ينشر وتقييمه وإطلاق الأحكام عليه. هذا غير ممكن.

في هذا السياق، كيف تختارون لجان التحكيم؟

*** نعتمد مجموعة محكَّات ناظمة في عملية الاختيار. أولا، نريد أن تكون لجنة التحكيم قادرة على قراءة الأعمال الروائية، وعلى أن تصدر أحكاما تنطلق من أرض القراءة والمعرفة الروائية والتذوق والمتعة والحكم بالقيمة الأدبية والجمالية والمعنى والمبنى، إلخ. ثانيا، نريد أن تتألف من رجال ونساء، ومن أعمار متفاوتة من الأصغر إلى الأكبر سنا، كما نحرص دائما على أن يكون بها أعضاء من المشرق والمغرب، وعادة ما يكون بها عضو من خارج فضاء العالم العربي (اللجنة ممثلة، هذه السنة، بروسيا؛ والسنة الفارطة بالصين؛ وفي السنوات الماضية، كان هناك أدباء من إيطاليا وألمانيا وبريطانيا والبوسنة واليابان…) إذ نحرص على هذا التمثيل المهم، لأنه ساعدنا، من قبل، على أن نشرع للأدب العربي أبوابا مختلفة. فمثلا، من اشترك معنا من إسبانيا، قدم لنا دعما كبيرا، حيث عمِل عملا جبارا في أمريكا اللاتينية. حصل الأمر ذاته مع المُحكِّم الصيني. ومن هنا، ننظر إلى هؤلاء كأصدقاء للرواية العربية أولا، وقراء ومترجمين لها إلى لغات أخرى. وأخيرا، نشترط أن تتوفر في هؤلاء النزاهة.

يُعاب على لجان تحكيم البوكر تشكلها من أعضاء لا يكتبون الرواية أو النقد الروائي. هم إما شعراء أو مسرحيون أو إعلاميون. بل نجد من يقول إن بعض أعضائها ليسوا من قراء الرواية…

*** لا أعرف أحدا من الأعضاء السابقين، ليس من قراء الرواية. قد لا يكون بعض الأعضاء نقادا أو روائيين، لكن ستجد أن الجميع مهتم بالأدب، ليس بكل أجناسه أحيانا. على كل حال، من المهم أن تتكون داخل اللجان توازنات بين النقاد والروائيين ذوي المعرفة والدربة، والمتخصصين والقراء، إلخ. عندما تنتهي هذه اللجان من عملها، ستجد أن رئيس اللجنة يقر، في النهاية، أن بعض الأعضاء الذين يرافقونه في التحكيم هم قراء ممتازون ذوو نظرة واسعة إلى الرواية.

في الحقيقة، إذا قصرنا الرواية على من يهتم بنقدها من داخل الفضاء الأكاديمي فقط، فذلك يعني أن الرواية ستموت، أو ستنحصر على مجموعة صغيرة جدا. والرواية في الآداب الأخرى ليست هكذا. إذا أخذت روايات « هاري بوتر »، ستجد أن العديد من الناشرين رفضوها. لكنها أصبحت الآن روايات كاسحة. صحيح أننا نحترم النقاد الكبار، ونجل دورهم، إلا أننا نريد أن يشارك القراء في هذا العمل، وأن يتحدثوا باسم القارئ العربي، وإن كانوا لا يمثلونه، فإنهم يتكلمون باسمه. خوفي من أن تصبح الرواية حكرا على المتخصصين والنقاد ذوي الدربة، ومن أن تعيش حبيسة قصور الأدب العاجية.

لو كنت عضوا في لجنة التحكيم، هل كنت ستميل إلى رواية موجهة إلى الرواج الإعلامي والاستهلاك الجماهيري، أم إلى رواية تراعي الخصائص الجمالية والفنية وتسعى إلى تطوير الكتابة الإبداعية وشكلها السردي وأساليبها وطرائقها وأدواتها؟

*** لا أعتقد أن هناك ضدية ما في هذه الثنائية بين الرواية الرائجة والرواية التي تلتزم بخصائص النوع الروائي والأدبي. لا أرى الأمر هكذا، بل أعتقد أن المتعة في قراءة الرواية مهمة للغاية. فالذي يجذبني إلى رواية ما، هو أن قراءتها تمتعني وتخاطبني كجنس روائي. إذا كانت الفكرة التي تطرحها ليست فكرة تخييلية تلتزم بخصائص الرواية، فأفضل أن أقرأ مقالة أو كتاب… شخصيا، لم أكن عضوا في لجنة، لكني أقرأ الأعمال المرشحة كل سنة، على الأقل تلك المرشحة في القائمة القصيرة. عادة أبدأ بروايات القائمة الطويلة. وأنا كأي قارئ أُعجب برواية من الروايات المرشحة، لكني لم أوفّق حتى الآن، في اختيار الرواية الفائزة. فالروايات التي ظننت أنها خاطبتني بشيء ما لم تفز بجائزة البوكر. وهذا لا يعيب اختياراتي، لأنني أقرأ بمتعة. غير أن موقفي سيتغير إذا كانت هناك رواية تتميز بهندسة روائية عالية، لكنها لا تخاطبني، ولا تؤثر فيّ. فالرواية أشبه بدخول بيت بديع البناء يخلق في نفسك بهجة وانجذابا ومتعة واندهاشا.

عندما تقرأ الأعمال المرشحة، ألا تتدخل لتوجيه عمل اللجنة لاختيار هذا العمل أو ذاك؟ ما حدود العلاقة بين مجلس الأمناء ولجان التحكيم؟

*** أؤكد لك، بما لا شك فيه على الإطلاق- وهذا يؤكده كل رؤساء اللجان وأعضائها- أن مجلس الأمناء لا يتدخل، بأي شكل من الأشكال، في أعمال اللجان، طالما تلتزم هي بالنزاهة. وعادة ما تفعل! نحن لا نتدخل، ولا نوجه أحدا، بل نعتقد أن سر نجاح البوكر العربية تكمن في أن لجان التحكيم تعمل في استقلالية تامة. في بعض الأحيان، تفرز هذه اللجان نتائج تسبب حرجا لبعض الأشخاص. غير أننا نبين أن لجنة التحكيم عملت بأمانة ونزاهة، فأفرزت هذا العمل. عليك أن تسأل من شارك في أعمال اللجنة، وسترى أن مجلس الأمناء لا يتدخل، من قريب أو بعيد، في أعمال اللجنة، لأنه يعتقد أن الامتناع عن التدخل يعزز مصداقية اللجان. أعتقد أن درجة الثقة بين المجلس واللجان تزداد دورة تلو الأخرى، حيث تضفي مصداقية كبرى على الجائزة. ومصداقيتنا هنا هي رأسمال الجائزة. إذ لا نجازف أو نقامر بهذا الرأسمال.

إذًا، تنفي بهذا كل ما راج، قبل ثلاث سنوات، حول وجود تدخلات سياسية أسفرت عن تتويج رواية « موت صغير » لمحمد حسن علوان…

*** إطلاقا. لم يتوج محمد حسن علوان إلا لأن اللجنة اعتقدت ورأت أن روايته تستحق أن تكون هي الفائزة.

ما تعليقك على القول السائد الذي يفيد أن اللائحتين الطويلة والقصيرة تفرز وفق التقسيم الجغرافي للرواية العربية؟ هل يتخذ فعلا هذا التوزيع الجغرافي معيارا في ترشيح أعمال اللائحتين، على غرار معيار المشرق والمغرب في اختيار لجان التحكيم؟

*** هذه قضية من القضايا التي تثار بقوة، حيث نوقشت بقوة في بداية الجائزة. لا يوجد في أطر عمل الجائزة واللجان ما يفيد أن هناك محاصصة جغرافية. ففي السنة الأولى، فاز بها بهاء طاهر من مصر. وفي السنة الثانية، فاز بها مصري أيضا هو يوسف زيدان. ففي سنتين متتاليتين، فاز بها كاتبان من بلد واحد. لم نقل حينها إنه ينبغي أن تعطى الجائزة لكاتب آخر في الدورة الثانية، لأن مصريا فاز بها في الدورة الأولى. وفاز بالجائزة سنة 2010 عبده خال من السعودية، ثم فازت رجاء عالم من السعودية مناصفة مع محمد الأشعري في سنة 2011- وهي السنة التي منعنا فيها أن يفوز أكثر من كاتب واحد، كما تعرف- كما فاز محمد حسن علوان، وهو سعودي كذلك. لماذا نقول، إذًا، إن هناك محاصصة؟ عندما نقول إن هذا الواقع يجسد مثالا على عدم المحاصصة، يقولون إنه دليل المحاباة. وهذا غير وارد على الإطلاق. فاللجان مختلفة، حيث إذا أخذت اللجنة التي توجت محمد حسن علوان، ستجد أنه لم يكن بها أي سعودي. إذ ترأستها الروائية الفلسطينية سحر خليفة، إلى جانب أربع نساء ورجل واحد. وفي العام الماضي، كان رئيس اللجنة مغربيا، لكنه لم يتوج الرواية المغربية التي كانت مرشحة. هكذا، لا يوجد أي معيار جغرافي في اشتغال اللجان على الإطلاق. ولو افترضنا أن أفضل رواية، خلال ثلاث سنوات متتالية، هي لدولة ما، فليكن ذلك. ومجلس الأمناء سيقبل بذلك.

يشعر كثير من الكتاب المغاربة بالإجحاف تمارسه لجان التحكيم تجاه الرواية المغربية. يلاحظ أن نصيبها في اللائحتين الطويلة والقصيرة كان ضعيفا جدا. وحتى عندما فازت بها الرواية المغربية، أعطيت لها مناصفة. بوصفك رئيس مجلس الأمناء، ما تعليقك على هذا الشعور؟

*** أريد أن أؤكد لك، أولا، أنه لا يمكن أن يكون هناك إجحاف بحق أي دولة من الدول في هذه الجائزة. أعطيك مثالا: لم تفز بالجائزة كل من الأردن والإمارات وقطر والجزائر وموريتانيا… إذا كان هناك إجحاف، فهو يطال هذه الدول أيضا، أليس كذلك؟ أريد أن أؤكد لك أن موضوع الإجحاف غير وارد على الإطلاق في أعمال اللجان. هناك دائما إحساس بأن هذا البلد أو ذاك لم يحصل على كذا، وأن الأحكام هي أحكام لجان. واللجان مختلفة، وهي لا توجه. ففي السنة الأولى، كان باللجنة الأستاذان المغربيان محمد بنيس ومحمد برادة، لكنهما لم يتوجا روائيا مغربيا. هذا يعكس نزاهتهما وابتعادهما عن تحكيم منطق الانتماء. فهؤلاء رجال عظام، يشهد لهما التاريخ بشفافيتهما، لأنهما لم يقولا إنه ينبغي أن ندفع برواية مغربية للفوز بالجائزة، لأننا مغربيان.

لا بد من توضيح أن أعضاء لجان التحكيم يقرؤون الأعمال المرشحة، ويطلقون حولها أحكاما، ثم تتغير الأحكام من خلال النقاش، ويخرجون بنتيجة في النهاية. لكن التوجيه والإجحاف، فهما أمران أرفضهما تماما. أود أن أذكر أن لجان التحكيم الماضية اشتملت على مغاربة كثيرين، منهم شرف الدين مجدولين، الذي ترأس لجنة تحكيم العام الماضي، وزهور كرام ومحمد مشبال وغيرهم. ستجد أن حظ المحكمين المغاربة كحظوظ الدول الأخرى. ولو فازت أي رواية مغربية، عندما كان هؤلاء أعضاء في لجان التحكيم، لقيل إن الفضل يعود إلى العضو المغربي. عندما لا يفوز أي مغربي، يقال إن المحكم المغربي قد قصّر. عند الإنجليز مثال في صيغة سؤال: (Have you stopped beating your wife?)، ومعناه: « هل توقفت عن ضرب زوجتك؟ » إذا قلت: نعم، فهذا معناه أنك مجرم، لأنك كنت تضرب زوجتك. وإذا قلت: لا، فمعناه أنك ما زلت تضرب زوجتك. هكذا، فمهما حاولت التفسير، فإنك ستجابه دائما بالتفسير وعكسه. أعتقد أنه عندما يقال إن رواية مغربية وصلت إلى الجائزة القصيرة بسبب وجود روائي أو ناقد أو قارئ مغربي، فهو قول يقلل من شأن الرواية المغربية، لأنها ليست بحاجة إلى من يزكيها. عندما تصل الرواية المغربية إلى اللائحة الطويلة أو القصيرة، فهي تستحق ذلك.

من الملاحظ أن أسماء بعينها يتكرر ترشيحها سنة بعد أخرى. يمكن أن نعطي بعض الأمثلة هنا: جبور الدويهي، خالد خليفة، أمير تاج السر، إلياس خوري… هل يتعلق الأمر فعلا بروائيين كبار يستحقون أن يرشحوا سنة بعد أخرى؟ أم أن سلطة الاسم تفرض نفسها في اختيار هؤلاء؟

*** في الحقيقة، إذا نظرت في أعمال هؤلاء، ستجد أنها تستحق أن تصل إلى القائمتين الطويلة والقصيرة. والمنطلق هو أن الجائزة موجهة للأعمال، لا للكُتاب، وأنها ليست جائزة تشجيعية، ولا تقديرية. هؤلاء روائيون كبار بلا شك. وغيرهم أيضا روائيون كبار. لكن لجان التحكيم تنظر إلى الأعمال التي نشرت في السنة التي سبقت سنة التحكيم. في هذا السياق، لا ننظر إلى الأسماء التي فازت. فمثلا، فاز بالجائزة الكويتي سعود السنعوسي، والعراقي أحمد سعداوي ومحمد حسن علوان، وروائيون آخرون. وهؤلاء لم يكونوا كُتابا مكرسين ومعروفين. هكذا، فإن لجان التحكيم لا تنظر إلى سجل الكاتب ومساره، وإنما إلى العمل المقدم إليها.

أعتقد أن لجان التحكيم قالت، فيما يتعلق بالأسماء التي ذكرت، إن رواياتهم المرشحة تستحق أن تكون في القائمة التي وضعت فيها. لكن الكتاب الذين أتيت على ذكرهم لم يفوزوا بالجائزة، رغم وصولهم المتكرر إلى اللائحتين الطويلة والقصيرة. لم يفوزوا نكاية بهم.. لا، فاللجنة تعتقد أنهم كتاب كبار ومكرسون، لكنها ترى أن أعمالهم ليست أفضل الأعمال الروائية العربية خلال هذه السنة أو تلك. سمعت بعض الناس يقولون إن فلانا فاز بالجائزة على عمل ليس من أفضل الأعمال، وإنه كان يستحق الجائزة عن عمله الفلاني، لا عن هذا العمل… لكن الجائزة مخصصة لروايات نشرت في السنة التي سبقت دورة التحكيم.

ألا ترى أن المعايير الجديدة التي استحدثها مجلس الأمناء قبل بضع سنوات تحد من إمكانية اكتشاف أعمال جيدة؟ ما هي آفاق هذا التغيير في معايير الترشيح؟

*** لنتحدث أولا عن أسباب التغيير. لقد أصبح عدد الأعمال التي تصل إلى الجائزة كبيرا جدا. كما لاحظنا ظاهرة عجيبة، قوامها أن بعض الكتاب يريدون الترشح للجائزة، لكنهم لا يصلون إلى مبتغاهم، فيتحولون إلى ناشرين، حيث ينشرون رواياتهم، ويتقدمون بها إلى الجائزة… كان هدفنا هو الاستمرار في السماح لكل الناشرين بالترشح للجائزة، على أن يرشح كل ناشر عملا واحدا. لكن هناك بعض دور النشر الكبيرة والمعروفة، والتي وصلت إلى القائمتين الطويلة والقصيرة مرارا، وفازت بالجائزة أحيانا، ولها أعراف وتقاليد في عمل النشر.. فهؤلاء لهم الحق في ترشيح عدد أكبر. ليس الهدف هو حصر الترشيح، وإنما تقنين العملية، حتى نتمكن من رفع جودة الأعمال التي تصل إليها، وحتى تصبح لجنة التحكيم قادرة على أن تقرأ 120 رواية في حدود ثمانية شهور. ارتأينا أن ذلك أفضل بكثير من أن تقرأ 250 رواية في الفترة نفسها. فالهدف، كما قلت، ليس هو إغلاق الباب، وإنما تنظيم العملية برمتها حتى تتقدم أفضل الأعمال للجائزة.

انطلاقا من تجربتك الشخصية، كقارئ ورئيس مجلس أمناء الجائزة، وبناء على التتويجات والروايات المرشحة وغير المرشحة، كيف يمكن تقييم واقع الكتابة الروائية العربية؟ وكيف يمكن النظر إلى مستقبلها؟

*** أعتقد، من منظوري كقارئ، أن الرواية أصبحت الجنس الأدبي السائد في الوطن العربي، وصارت تنافس أجناسا أدبية وغير أدبية، نظرا إلى إقبال القراء عليها. من هنا، أظن أنه إقبال مهم، بالرغم مما يقوله البعض من أن هذا الإقبال لم يصل بعد إلى الحد الذي نرجوه. من ناحية ثانية، خلقت الجائزة حالة من التلقي خارج العالم العربي. فعندما أعلنا عن اللائحة القصيرة، اتصل بنا وكلاء أدبيون من آداب أخرى، قصد ترجمة الأعمال المرشحة ضمنها إلى لغاتهم. إذ صارت هناك، في الآداب الإنجليزية والفرنسية وغيرهما، آذان تصغي إلى الأدب العربي، حيث يرغب أصحابها في شراء الحقوق بغية الترجمة. وهذه حالة غير مسبوقة في العالم العربي، لأن الجائزة استطاعت أن تخلق حالة من التفاعل بين الأدب العربي والآداب الأخرى، بحيث يبدأ الناشرون والمترجمون الأجانب شراء حقوق الترجمة والنشر، حتى قبل أن نصل إلى الإعلان عن الفائز. وهي حالة جديدة أيضا.

أعتقد أن الرواية العربية صارت، في الوطن العربي وخارجه، بحال أفضل مما كانت عليه. ورغم أنني أرى أن الطريق مازال طويلا، إلا أننا قطعنا شوطا منه. كما أعتقد أن الرواية هي الجنس السائد عالميا، حيث لا يعقل أن يغرد العالم العربي خارج السرب. ومن هنا، فقد أصبح، هو كذلك، داخل هذا السرب. ومعرفة الشباب العربي باللغتين الإنجليزية والفرنسية وغيرهما واطلاعهم على الآداب الأخرى هي معرفة تساعد على قراءة الأدب العربي. فأنا متفائل. وأريد أن يزداد التفاؤل، حيث لعبت الجائزة دورا مهما. لكن لا بد من التواضع، لأن الجائزة ليست أكبر من الأدب العربي، ولا من الرواية العربية. ومع أنها تتصدر قائمة التتويجات العربية، لكن هناك جوائز أخرى، ممتازة وعظيمة، في كل الدول العربية. إلا أن البوكر أصبحت جائزة عربية، وليست جائزة قطرية، حيث يتفاعل معها المغربي والجزائري والمصري والسعودي والفلسطيني والعراقي، الخ. وكلما فازت رواية مغربية أو تونسية أو مصري، فالأدب العربي هو الذي يفوز. وعندما تخترق هذه الرواية أو تلك الآداب العالمية، كما فعلت رواية جوخة الحارثي، التي فازت بجائزة « مان بوكر »، فهذا يعبر عن أن الرواية التي لم ترشح ضمن لائحتي البوكر هي رواية مهمة، أيضا، ولا ينبغي أن تُنسى. وهي تحيى حياة جديدة بفضل اختراقها للآداب العالمية، وهي حياة تعود إلى الأدب العربي. أعتقد أن الأدب العربي بدأ، الآن، يخترق الحواجز التي كانت تحاط به، حيث لم تعد ترجمته مقتصرة على الفرنسية والإنجليزية، بل أخذ ينفتح على الصينية والروسية والسلوفينية والكرواتية والبولونية، إلخ. وهذا شيء مفرح للأدب العربي، في الحقيقة.

 

 

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي