يونس مسكين يكتب: المسؤولية الجنائية عن كورونا

11 مايو 2020 - 18:00

سمعنا وقلنا الكثير عن «غيرة» و«حسد» الفرنسيين تجاه المغرب جراء ما حققته المملكة من نجاح لا ينكره أحد في الحد من انتشار وباء كورونا، ومنع سقوط المئات أو الآلاف من الضحايا، كما هو الحال لدى مستعمرنا السابق؛ لكن ما جرى هذا الأسبوع داخل البرلمان الفرنسي، يلزمنا بالعودة إلى مقعد التواضع والإنصات إلى صوت الديمقراطية، والإعلاء من قيمة الحق، وربط المسؤولية والمحاسبة، أي كل ما ينقصنا، سواء قبل أو بعد ظهور وباء كورونا.

ما وقع هو أن ممثلي الشعب الفرنسي قضوا أكثر من أسبوعين في مناقشة وتعديل مشروع القانون الذي أعدته الحكومة وأحالته عليهم، بهدف تمديد حالة الطوارئ المعلنة لمواجهة الوباء الفتاك، إلى غاية 20 يوليوز، في الوقت الذي ينتهي العمل بهذه الحالة في 11 ماي الجاري. لا داعي لنذكّر هنا بخطاب الإجماع الوطني، والتحذير من «كسره» كما لو كان قشرة بيضة، وما أمطرتنا به أصوات البرلمانيين، موالاة ومعارضة، من ضرورة تجنّب أي نقاش حول ما يقع باسم الحكومة منذ ظهور أول حالة إصابة بكورونا في المغرب؛ لنترك كل ذلك جانبا، ولننظر إلى مضمون النقاش الذي لم يحسم إلا أول أمس السبت وبعد تفاوض عسير بين غرفتي البرلمان الفرنسي.

ما جرى هو أن إرادة أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي التقت إرادة ممثلي عدد من الهيئات الممثلة لأرباب المقاولات، لينتج عن ذلك تعديل مسّ المادة الأولى من مشروع القانون الذي قدمته الحكومة، ينص على عدم إثارة المسؤولية الجنائية للمسؤولين، في حال حدوث إصابات بفيروس كورونا في فترة الطوارئ الصحية، بعد اتخاذ قرارات استئناف العمل والدراسة. ويتعلّق الأمر بمقتضى قانوني يعود إلى عشرين سنة ماضية، يعرف باسم «قانون فوشون»، ويعتبر المسؤول العمومي أو الخاص قابلا للمتابعة الجنائية في حال تسببه في ضرر ما بفعل إهماله أو قلة احتياطه.

جرى تقديم التعديل والتصويت عليه في 4 ماي الجاري، وانتقل النقاش على إثره إلى الجمعية الوطنية الفرنسية، الغرفة الأولى للبرلمان، حيث تعارض الأغلبية هذا التعديل، مثلها في ذلك مثل الحكومة التي رفضت قبوله. في بلد يسقط فيه الموتى بالمئات يوميا جراء فيروس كورونا، ويعتبر من أكثر بلدان العالم تضررا من الوباء، لم يرفع أحد فزاعة الإضرار بالإجماع الوطني، والخوف على اللحمة التي يمكن أن يفتتها النقاش الديمقراطي، بل تحوّل الأمر إلى نقاش وطني مفتوح، وحوار مباشر بين غرفتي البرلمان الفرنسي من أجل التوصل إلى صيغة وسطى متوافق عليها بأدوات الرقابة الديمقراطية.

وزيرة العدل الفرنسية، نيكول بيلوبي، وعكس وزيرنا هنا الذي باغت المجلس الحكومي ومعه الرأي العام الوطني، في يوم إعلان الطوارئ الصحية، بمشروع قانون تكميم الشبكات الاجتماعية، خرجت لتعارض التعديل الذي قام به مجلس الشيوخ، معتبرة أنها تتفهم مخاوف عمداء المدن وأرباب المقاولات، لكنها لا يمكن أن تقبل بالتخلي عن قاعدة المسؤولية الجنائية لأصحاب القرار، أو إعطاء الانطباع بعدم ترتيب المسؤولية على القرارات المتخذة. حارسة الأختام بالجمهورية الفرنسية حذّرت من أن أي استثناء من هذه المسؤولية سيكون مخالفا للدستور، لأنه يخل بمبدأ المساواة أمام القانون. وقدّمت الوزيرة مثلا يوضح هذا الإخلال بمبدأ المساواة أمام القانون، يتمثل في إمكانية متابعة مدير مستشفى جنائيا لاتخاذه قرارا سبب ضررا قبل حالة الطوارئ الصحية، مقابل إخلاء مسؤولية مدير آخر قام بالخطأ نفسه خلال فترة الطوارئ.

دافع أعضاء الجمعية الوطنية، بدورهم، عن قاعدة قانون «فوشون»، خاصة أنها تنص على ضرورة أخذ القضاء بعين الاعتبار الظروف التي اتخذ فيها القرار الذي سبب ضررا، وأن الاجتهاد القضائي المتوفر يغني عن أية إضافة في القانون، لأن القضاة يأخذون الظروف المحيطة بالقرار بعين الاعتبار. وخلصت النقاشات، التي جرت في اللجنة المختصة داخل الجمعية الوطنية، إلى ضرورة البحث عن توازن بين عدم تحميل عمداء المدن المسؤولية الكاملة عن وضع صحي استثنائي يتجاوزهم، وبين عدم إخلاء مسؤولية أصحاب القرار، العموميين والخواص، مما يمكن أن يرتكبوه من أخطاء. 

الحل الذي اهتُدي إليه بعد نقاش طويل، هو إضافة فقرة إلى القانون، تنص على ضرورة الأخذ بعين الاعتبار طبيعة المعرفة العلمية المتوفرة في لحظة اتخاذ القرار أثناء فترة الكوارث الصحية. هذا التعديل منع أي تقلص لمسؤولية صاحب القرار، مكتفيا بتأكيد ما يعتمده الاجتهاد القضائي أصلا في فرنسا، أي مراعاة الظروف المحيطة باتخاذ القرار. فالطبيب لا يمكن أن يدان جنائيا، مثلا، وفقا للقانون الفرنسي الحالي، إلا إذا ثبت، بواسطة الخبرة العلمية، أنه تصرف خارج ما توصلت إليه الأبحاث العلمية لحظة ارتكابه الخطأ المفترض. وفي الوقت الذي كان تعديل مجلس الشيوخ يرمي إلى تقليص مسؤولية أصحاب القرار، فإن التعديل الذي اعتُمد، في النهاية، زاد من مسؤوليتهم في واقع الأمر، لأنه ألزمهم بالاطلاع على آخر التطورات العلمية، حتى لا تثار مسؤوليتهم الجنائية في حال حدوث أضرار جراء اتخاذهم قرارات استئناف العمل أو الدراسة.

المعرفة العلمية التي باتت محددا في ربط المسؤولية بالمحاسبة الجنائية، هي نفسها التي يعوّل عليها كل من الرئيس والحكومة الفرنسيين للدفاع عن نفسيهما، في حال مقاضاتهما بسبب مسؤوليتهما عن عدم تشجيع الفرنسيين على ارتداء الكمامات في الأسابيع الأولى للوباء. وهذا الموضوع يحتّم عليك، وأنت تتابعه، أن تعود إلى المقارنة بالحالة المغربية في هذا المجال. فالحكومة المغربية قالت بدورها في بدايات الجائحة إن الكمامات غير ضرورية ولا تفيد في الوقاية من الإصابة؛ قبل أن تعود، بين عشية وضحاها، لتعتبر ارتداءها إلزاميا، وأن الامتناع عنه موجب للعقاب بالحبس والغرامة.

حذار من التوغل أكثر في هذه المقارنة، لأنها ستؤدي حتما إلى السقوط في حالة من الاكتئاب المرضي الحاد. ففي الوقت الذي يتحمّل فيه صاحب القرار السياسي والاقتصادي في فرنسا المسؤولية الجنائية عن قراراته التي تسبب، أو لا تمنع حدوث الإصابة بكورونا، تصدر عندنا بيانات النيابة العامة مفتخرة بآلاف الاعتقالات والمتابعات للمواطنين بتهمة مخالفة بلاغ صدر فجأة، ألزمهم بارتداء كمامة ظلت مفقودة في الأسواق عدة أيام. فهل يحق لنا فعلا الاستمرار في شعورنا بالفخر ونحن نقارن أنفسنا بالتدبير الفرنسي للجائحة؟

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي