اليوسفي.. السياسة فقدت شيخها

30 مايو 2020 - 23:00

تقول الأخبار إن أحد أقرب أصدقاء عبدالرحمان اليوسفي إليه، كان يحرص على الاطمئنان على ربان سفينة التناوب السياسي عن بعد، ليأتيه اتصال من مساعدة اليوسفي تخبره بأن الأخير قد توقف عن القراءة، وهو ما لم يحصل أبدا من قبل، وهو ما كان إيذانا بقرب الأجل. وفيما تتحدث مصادر مقربة من الوزير الأول الراحل عن وصية خلّفها لأحد أصدقائه المقربين، تقضي بدفنه في مدينة طنجة، سارعت السلطات إلى القيام بتحضيرات الدفن في مقبرة الشهداء في الدار البيضاء، في انتظار الحسم من جانب القصر الملكي الذي يحفّ اليوسفي برعايته.

 

هو أبرز الوجوه السياسية لمغرب ما بعد الاستقلال، التي عبرت إلى القرن 21، لكن عبوره كان مختلفا واستثنائيا، حيث انتقل عبدالرحمان اليوسفي من قرن إلى آخر، حاملا أمانة انتقال للعرش وتناوب سياسي أنهى خصومة مريرة بين الملكية وجزء من اليسار المعارض. صباح أمس الجمعة، لفظ أنفاسه الأخيرة التي سمحت به الرئة التي عاش بها النصف الثاني من حياته، بعدما جرى استئصال رئته الأخرى في خمسينيات القرن الماضي. شعور بالحزن والأسى خيّم على المغرب، وفي خلفيته إحساس يوحي كما لو أن الحجر الصحي الذي فرضه وباء كورونا، قد تسبّب في وضع حدّ لحياة معمّر سياسي يحترمه الخصوم قبل الأصدقاء.

تقول الأخبار إن أحد أقرب أصدقاء عبدالرحمان اليوسفي إليه، وهو مبارك بودرقة، يوجد من بين المغاربة العالقين في الديار الفرنسية إثر توقف حركة النقل الجوي بسبب الوباء. هذا الصديق كان يحرص على الاطمئنان على ربان سفينة التناوب السياسي عن بعد، ليأتيه اتصال من مساعدة كاتم جزء من أسرار المملكة، أخبرت فيه بودرقة بأن اليوسفي قد توقف عن القراءة، وهو ما لم يحصل أبدا من قبل. ورغم محاولات اليوسفي طمأنة صديقه، إلا أن بودرقة ربط الاتصال بالقصر الملكي ملتمسا نقل الوزير الأول السابق إلى المستشفى، وهو ما جرى أواخر شهر رمضان، وهناك تدهورت حالته الصحية تدريجيا، إلى أن أعلن الأطباء صباح أمس نهاية 96 سنة من الحياة الحافلة.

المعارض المحبوب

قبل نحو أربع سنوات، وقعت أعين المغاربة على صورة سوف تظل مجسدة لشخصية عبدالرحمان اليوسفي في أذهانهم، رغم مسارها الطويل في النضال والتدبير. صورة الملك يُقبّل رأس الثائر التقطتها عدسة هاوية ذات مساء والوزير الأول السابق ممدد فوق سرير المرض، ليكون لنشرها عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وقع الصخرة الثقيلة في البركة الراكضة. كان الأمر أكثر من مجرد عملية تواصلية تفصل بين افتتاح الملك للبرلمان في أكتوبر 2016 وانتقاله إلى الأدغال الإفريقية لمباشرة زيارة تاريخية وغير مسبوقة إلى شرق القارة، فقد عاد الملك في اليوم الموالي ليقوم بزيارة ثانية لوزيره الأول السابق. عناية حقيقية واهتمام شخصي فعلي، بدأ حين تناهى إلى علم الملك أن اليوسفي مريض ويتابع علاجا عاديا في بيته لم يثمر نتيجة فعالة، ليأمر بنقله تحت الرعاية الملكية إلى أفضل مستشفيات المملكة وتزويده بالغذاء من المطبخ الملكي.

لقطة القبلة الملكية فوق رأس اليوسفي، وثّقت رسميا لحضور قوي ودائم لهذه الشخصية في قلب الأحداث الوطنية لما يفوق 60 عاما. فبعدما توفى محمد الخامس، استدعى الملك الحسن الثاني ممثلي الهيئات السياسية ليستمع إلى آرائهم حول الوضع الجديد الذي ترتب عن وفاة محمد الخامس، وأوفد الاتحاد الوطني وفدا مكونا من كل من عبدالرحيم بوعبيد، ومحمد البصري، وعبدالرحمان اليوسفي، والدكتور بلمختار، فشرحوا له نظرية الاتحاد أثناء المقابلة التي أجروها معه يوم 8 مارس 1961. طلب الحسن الثاني يومها من مخاطبيه أن يرفعوا له مذكرة رسمية تسجل ما بلغوه إياه. وقد رفعت هذه المذكرة بتاريخ 13 مارس وفي أسفلها توقيع عبدالرحمان اليوسفي. هذا الأخير خاطب العاهل الجديد حينها، قائلا إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يرى أنه لا مناص لنظام ملكي “يتوخى الاستقرار والاستمرار على تقاليدنا الصالحة من إنشاء مؤسسات تمثيلية، تلبي رغبة الشعب الأكيدة في المشاركة في الحكم، ومراقبة أعمال الحاكمين، وبذلك يصبح المجتمع المغربي مجتمعا مسؤولا، يمارس مسؤولياته في السياسة الداخلية أو الخارجية بواسطة ممثليه المنتخبين”.

ابن طنجة البار

أبصر عبدالرحمان اليوسفي النور أول مرة في مدينة طنجة، في تاريخ يصادف اليوم العالمي لحقوق المرأة، أي 8 مارس 1924. وأخذت رحلة الحياة شيخ السياسيين المغاربة إلى كل من مدينتي مراكش والرباط، حيث التقى بكبار قادة الحركة الوطنية والشباب الذين سيتصدرون المشهد السياسي في لحظة الاستقلال.

إلى جانب العمل التطوعي المبكر، مارس اليوسفي مهنة التعليم في المدارس الحرة لسد الحاجات الضرورية اليومية، “كنت أثابر على متابعة دراستي، حيث اجتزت امتحاني الباكالوريا الأولى والثانية بنجاح، وتسجلت بكلية الحقوق وتمكنت من اجتياز امتحانات السنة الأولى والثانية بها بنجاح. أيضا طيلة هذه الفترة كنت اشتغل كأستاذ أناضل بالنهار، وفي المساء كنت أحضر الدروس الليلية”، يقول اليوسفي في كتاب مذكراته.

وبعد بلوغه السنة الثالثة الأخيرة في كلية الحقوق، ألح عليه رفاقه استكمال دراسته الجامعية في فرنسا حيث عاد اليوسفي، في كتاب مذكراته إلى أول لقاء جمعه بعبدالرحيم بوعبيد في فرنسا سنة 1949-1950، “عندما وصلت إلى فرنسا لإتمام دراستي هناك، وكنت على علم أن هذا الأخير مع المهدي بنبركة، من الجيل الجديد والحديث من قياديي الحزب. كان عبدالرحيم، قد اعتقل سنة 1944 حيث قضى سنتين في السجن، ثم عاد بعدها إلى باريس لإتمام دراسته، وكان أيضا بالإضافة إلى ذلك، المسؤول الأساسي كممثل  لحزب الاستقلال ويرأس فريق المناضلين الذين كانوا على اتصال دائم مع القادة السياسيين الفرنسيين والصحافيين… وكان من ضمن مهام عبدالرحيم بوعبيد، الاتصال بالقادة السياسيين والبرلمانيين وممثلي الأحزاب التقدمية لوضعهم بشكل دائم في صورة آخر تطورات الأحداث التي يشهدها المغرب تحت الاحتلال الفرنسي، وتشجيعهم على القيام بمبادرات تجاه السلطات الفرنسية، لوضع حد لعهد الحماية والاستعمار، والتنديد بالممارسات القمعية التي تمارسها تجاه مناضلي الحركة الوطنية في المغرب”.

بالموازاة مع زرع الخلايا الأولى للحركة النقابية في المغرب سنة 1944، إلى جانب الطبقة العاملة، بهدف وضع اللبنة الأولى لمقاومة الاستعمار، همّ اليوسفي إلى تأسيس أول دوري لكأس العرش لكرة القدم، بهدف تأطير الشباب “كما قمنا بإنشاء العديد من الجمعيات والمنظمات لتأطير الشباب في مجالات متعددة كالمسرح والكشفية والرياضة، ولايزال لحد الآن موجود فريق الاتحاد البيضاوي لكرة القدم بالحي المحمدي، لايزال يزاول نشاطه، وكان لي شرف المساهمة في تأسيس هذه الفرقة إلى جانب بعض الفعاليات كالمرحوم عبدالسلام بناني، حيث أنشأنا معا العصبة المغربية لكرة القدم”. وانتخب اليوسفي آنذاك، كأول كاتب عام للعصبة المغربية لكرة القدم، كما قام “بتنظيم أول دوري لكأس العرش في كرة القدم بتاريخ 18 نونبر 1946، وكانت تشارك فيه العديد من الفرق البيضاوية”.

قبل ذلك، وتحديدا في سنة 1943، وقع التقارب بين اليوسفي والمهدي بنبركة، بعدما استضافه هذا الأخير في بيت والدته البسيط في حي ‘الكزا’، بالرباط، من أجل عرض أفكاره وخططه السياسية، واستأثرت طريقة بنبركة وديناميكيته باهتمام اليوسفي “لاحظنا كيف أن بنبركة حدد موعدا لحوالي خمس مجموعات دفعة واحدة، حيث كان يجتمع مع كل واحدة منها في إحدى الغرف، فيقوم بعرضه للمجموعة الأولى، ثم ينتقل إلى المجموعة الثانية ليناقشهم في موضوع آخر.. أثارنا في الرجل هذا الحس التنظيمي والديناميكية وقدرته على الحوار، طرح الأسئلة مما يجعلك تنبهر أمام هذه الطاقة العالية والفكر المتنور، وعندما يشعر أنه استطاع أن يؤثر على مخاطبيه، يستقطبهم في مرحلة موالية إلى الدخول نهائيا إلى صف العمل السياسي الوطني… هكذا في شهر دجنبر 1943 أديت القسم أنا ومجموعة من رفاقي في ثانوية مولاي يوسف كإعلان على انخراطنا داخل حزب الاستقلال.. وكان القسم ينص طبعا على الوفاء للدين والوطن وللملك، وعلى الاحتفاظ بأسرار الحزب وعدم الكشف عن تنظيماته”.

الملك والثائر

قضى عبدالرحمان اليوسفي أكثر من نصف قرن بعد الاستقلال معارضا ومطاردا من طرف رجالات وأمنيي عهد الملك الراحل الحسن الثاني. ويقول مصدر خاص لـ”أخبار اليوم” إن أول مرة التقى فيها الملك محمد السادس مع اليوسفي مباشرة، كانت عام 1992 وهو بعد ولي للعهد. “كان ذلك حين استقبل والده قادة الأحزاب السياسية، وطلب من البروتوكول أن يصعد اليوسفي وحده في المصعد بينما الباقون صعدوا عبر الأدراج. حين فتح باب المصعد وجد اليوسفي أمامه الملك وولي العهد ومولاي رشيد. سلما على بعضهما وسأل الملك اليوسفي: منذ متى لم نلتقي؟ فأجابه اليوسفي بالسنوات والشهور والأيام، أي بالتدقيق. ضحك الملك وقال له: تبارك الله عليك راك عاقل. أجابه اليوسفي: ضروري. ثم قدمه لولي العهد وشقيقه قائلا لهما: “سلما على الأستاذ اليوسفي، هذا الرجل دافع عن العرش، وهو من أخطر من كان يزود المقاومة بالسلاح، حتى من تحت سرير مرضه بالمستشفى”.

أما ثاني لقاء مباشر بين الملك و”الثائر”، فلن يكون، حسب المصدر نفسه، سوى سنة 1998، أي مع تعيين اليوسفي لقيادة حكومة التناوب. “ثم تقوت تلك العلاقة مع وفاة الحسن الثاني، حيث كان اليوسفي من أول من أخبرهم ولي العهد آنذاك. وكان اليوسفي رفقة فتح الله ولعلو وعبدالواحد الراضي من أول من حضر إلى القصر لتقديم العزاء. في تلك اللحظات الحاسمة لانتقال الملك كان التواصل جد وثيق بين الملك الجديد واليوسفي. أغلب اللقاءات الثنائية بينهما كانت تتم، حينها، بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة الملكية بالرباط، حيث كان يوجد مكتب محمد السادس”. ظلّت هذه العلاقة قوية ومتواصلة حتى جاءت لحظة ما بعد نتائج انتخابات 2002، ولقاء مراكش الذي أخبر فيه الملك اليوسفي بقراره تعيين جطو وزيرا أول.

بعد نهاية ولايته الحكومية، وفوز حزبه، الاتحاد الاشتراكي، بصدارة الانتخابات، كان عبدالرحمان اليوسفي، حريصا على فعل كل ما يمكن أن يساعده في إقناع الملك بضرورة تجديد تعيينه بعد انتخابات 2002، وهو ما دفعه إلى اتخاذ قرارات من قبيل منع مجلة “لوجورنال” بعد إقدامها على نشر رسالة الفقيه البصري الشهيرة. وبعد إجراء أول استحقاق انتخابي في عهد الملك الشاب، يروي كتاب “ابن صديقنا الملك” لصحابه عمر بروكسي، كيف تلقى اليوسفي استدعاء من القصر الملكي، يوم 2 أكتوبر، انتقل على إثره إلى مراكش، حيث تقرر أن يجري الاستقبال.

قياديو حزب الوردة كانوا، حسب مؤلف الكتاب، واثقين من تجديد الثقة في كاتبهم الأول، خاصة أنهم احتلوا المرتبة الأولى في الانتخابات. “مرتديا لباسه التقليدي الرسمي، انتقل اليوسفي بعد زوال تلك الجمعة إلى المدينة الحمراء، ليتلقى الصدمة القوية منذ الوهلة الأولى للقائه بالملك. مقرّب من الزعيم الاتحادي السابق، قال إن اللقاء لم يدم أكثر من 10 دقائق، ودشّنه الملك بإخبار اليوسفي مباشرة بقراره تعيين ادريس جطو وزيرا أول”. المصدر الذي تحدث إلى صاحب الكتاب وصف شدة الصدمة التي تلقاها اليوسفي بالقول إن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله، لكنه رد رغم ذلك وقال: “لكن جلالة الملك هذا القرار مخالف للمنهجية الديمقراطية”، ليجيب الملك بالقول إنه علم بكون اليوسفي لم يعد مهتما بمنصب الوزير الأول.

مصدر “أخبار اليوم” القريب من اليوسفي، قال إن هذا الأخير تقلد الوسام وغادر القصر ولم يخبر أحدا، حتى صدر البلاغ الرسمي لتعيين جطو. “عرضت عليه الاستفادة من فيلا ضخمة بالرباط مثلما ظل معمولا به مع كل الوزراء الأوائل من قبله، لكنه اعتذر ولم يقبل. اكتفى فقط، بشراء شقة متوسطة بحي بوركون مساحتها 110 أمتار بالدار البيضاء، حيث لايزال يقيم. وتوصل من الملك محمد السادس بهديتين فقط، عبارة عن ساعتين يدويتين لا غير”. المصدر الذي فضّل عدم ذكر اسمه، قال لـ”أخبار اليوم” إنه وقبل حدث حضور اليوسفي بطنجة إلى جانب الملك أثناء زيارة الرئيس الفرنسي هولاند العام الماضي، “كان الملك قد أمر جطو بتنظيم حفل بفيلا رسمية بالرباط، احتفالا بعيد ميلاد اليوسفي 91، وحضره عدد محدود من المدعوين، كان ضمنهم المستشاران الملكيان الهمة وعزيمان. وخلال ذلك الحفل قدم له الهمة هدية الملك وهي ساعة يدوية (الساعة الأولى كانت سنة 2002)”. “في تاريخ المغرب، السلاطين يبدون دوما التقدير والاحترام للأولياء والعلماء، مع قدر من المجاملة كما ينعتونها في مراسلاتهم”، يقول السوسيولوجي محمد الناجي في حديث سابق لـ”أخبار اليوم”، موضحا أن علاقة الملك محمد السادس مع عبدالرحمان اليوسفي تندرج في هذا الإطار. “اليوسفي مقاوم ينتمي إلى أصحاب الرأسمال الرمزي المرتفع. يمكن وصفه بواحد من مؤسسي المغرب الحديث المتحرر من براثن الاستعمار. إنه من الرواد الأوائل الحاملين لنقاء الأصول. له دور مشهود في انتقال العرش عن الحسن الثاني إلى محمد السادس. وجوده منح بريقا وقوة لشرعية خلافة الابن للأب، بتعبير آخر اليوسفي، جسّد مقولة مات الملك، عاش الملك”، يقول محمد الناجي.

مستشار غير معلن

المفاوضات الطويلة التي جرت في التسعينيات لإنهاء القطيعة بين الملك الراحل ومعارضيه، انتهى بذلك القسم الذي قبل عبدالرحمان اليوسفي أداءه سرا مع الملك الراحل الحسن الثاني، وكان تعبيرا عن دخول زعيم الاشتراكيين تجربة “التناوب” بناء على الأعراف المرعية للبلاط العلوي، وليس النصوص والوثائق والدساتير التي تحكم وتنظم الدول الحديثة. والهاجس الأساسي الذي ميّز قيادة عبدالرحمان اليوسفي لتجربة “التناوب التوافقي”، هو بناء الثقة مع القصر الملكي، والتضحية بالباقي من أجل هذا الهدف.

علاقة الملك محمد السادس بوزيره الأول السابق، لم تنتقل فقط من الغضب والتشنّج الذي أثاره التعيين الملكي لوزير أول غير سياسي عام 2002، إلى ودّ ومجاملة متبادلة؛ بل أصبحت أقرب إلى علاقة الملك والمستشار غير المعلن. علاقة تجد تفسيرها في الجانب الإنساني، وأيضا في الدور الخاص الذي لعبه اليوسفي. فـ”الملك الحسن الثاني شخصيا طلب تدخّله بمؤازرته للملك الابن بتعبير أدق. هكذا وكّل الأب لليوسفي مهمة الحرص على انتقال العرش، وقد مرّ بشكل سلمي”، يقول محمد الناجي، مضيفا أنه “وإذا كان وصول الاتحاد الاشتراكي إلى الحكومة ذرعا سياسيا لهذه العملية، فشخصية اليوسفي تظل مركزية وذات دلالة عميقة. إنه يتناسب بشكل جيد مع المنطق الكلاسيكي لجذب الرأسمال الرمزي من السلطات الروحية للمملكة. اليوسفي ـ إلى حد ماـ عوّض الأب الذي يحمي الابن. ومن الأجدر هنا عزل شخصيته عن الإطار الحزبي لكي نفهم عمله في سياق السلالة الملكية”.

 

مات نظيفا

رغم عودته إلى المغرب، بعد غضبته الشهيرة، واستفادته من المعاش الاستثنائي وعودة علاقته بالملك إلى سابق عهدها، بل أفضل مما كانت عليه؛ ظلّ اليوسفي محتفظا بتقدير واحترام الجميع. وحده بقي قادرا على الجمع بين مصداقية المعارض الثائر وحكمة السياسي المهادن. فبعد أزيد من 15 سنة من اعتزال الأضواء والصمت، أقدم عبدالرحمان اليوسفي على نشر الجزء الأول من كتاب مذكراته، بعنوان “أحاديث في ما جرى”. اليوسفي فتح علبة أسراره، وإن بكثير من الحذر، لكنه يقدّم رواية موثقة ودقيقة، لمساره السياسي الطويل، منذ مرحلة الحماية الفرنسية. جاءت تلك المذكرات مؤكدة براءة الذمة المالية لشيخ الاتحاديين والرجل الذي اعتزل السياسة منذ اللحظة التي سجل فيها أمام الملك في قصر مراكش، تراجع المملكة عن المنهجية الديمقراطية، بتعيين التكنوقراطي إدريس جطو وزيرا أول.

اليوسفي نفى أن يكون قد طلب أي تعويض مادي عن سنوات الرصاص، كما نفى تلقيه أي هبات أو ممتلكات بعد توليه المسؤولية، مؤكدا أن كل ما حصل عليه هو ساعتان يدويتان، واحدة من الملك الراحل الحسن الثاني، والثانية من الملك محمد السادس. اليوسفي يكشف في ختام كتاب مذكراته، كيف أنه اتخذ قرارا استثنائيا عندما كان وزيرا أول، يتمثل في التنازل عن التعويضات المالية الخاصة بالتنقلات خارج المغرب، لفائدة صندوق التضامن مع العالم القروي.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي