محمد جليد يكتب: العدالة الثقافية!

17 يونيو 2020 - 18:00

شهدت الأيام القليلة الماضية حدثين بارزين، يمكن اعتبار حصولهما مثالا عن غياب «العدالة الثقافية»؛ أولهما عرض تقرير عمل اللجنة الخاصة بإعداد نموذج تنموي جديد على السفارة الفرنسية، والثاني تجاهل الأمازيغية في مشروع قانون يتعلق ببطاقة التعريف الوطنية الإلكترونية. يشي الحدث الأول بهيمنة الفرانكفونية على مناحٍ متعددة في الواقع المغربي تمتد من خطابات المسؤولين ومراسلات الحكومات الأجنبية، مرورا بعمل الإدارة والضرائب ووثائق الأبناك، وانتهاء عند مقررات التعليم، فيما يشي الحدث الثاني بهيمنة من نوع آخر، قوامها استمرار تهميش مقومات التعبير ومكونات الثقافة المغربية، بما يعنيه ذلك من عدم إعمال اللغة الأمازيغية في مختلف مناحي الحياة المغربية، رغم أن الدستور يعترف بها لغة رسمية للبلاد، أسوة بالعربية.

يمكن أن يضاف، في هذا الباب الرامي إلى الدلالة على غياب العدالة الثقافية، استبعاد مجال الثقافة من أي نقاش عمومي حول مرحلة ما بعد فيروس كورونا، وكذا الإجراءات والخطوات الواجب اتخاذها لتجاوز أضرار الوباء وانعكاساته على جميع المستويات. وهو الموضوع الذي أثارته «أخبار اليوم» في عددها الصادر أول أمس، تنبيها إلى أن الحركية في المغرب ليست اقتصادية واجتماعية وسياسية فحسب، وإنما هي ثقافية أيضا. إذ ينبغي ألا يقتصر النقاش على كيفية إنعاش المزارع والمعامل والأبناك والمقاولات التجارية والخدماتية، بل يجب أن يأخذ في الحسبان كذلك عمل الكتاب والفنانين والناشرين والفاعلين الثقافيين من منتجي الموسيقى والأفلام واللوحات ومنظمي الفعاليات الثقافية، من مؤتمرات وندوات ومهرجانات، الخ.

قبل الخوض في مظاهر الإجحاف الذي تعانيه الثقافة، لا بد من الإشارة أولا إلى أن مفهوم العدالة الثقافية مستقى من «نظرية في العدالة» للمنظر الأمريكي «جون رولز». وهو نفسه المفهوم الذي طبقه عالم اللغويات المغربي عبد القادر الفاسي الفهري في كتابه الأخير «العدالة اللغوية»، الذي ينتقد فيه بشدة توسيع مجالات تداول الفرنسية وتهميش العربية والأمازيغية. كما تجب الإشارة إلى أن العدالة في المجال الرمزي، حسب «رولز»، لا تعني المساواة بين الأشكال الثقافية وتعبيراتها المختلفة، لأن الأنسب هو أن تكون المساواة مقصورة على المواطنين، لكنها تعني إعطاء الحق لكل شكل وتعبير ثقافي، حسب حضوره وإسهامه في الثقافة العامة، والانتباه إلى ضرورة تجنب الظلم الذي قد يلحق به.

لنضرب بعض الأمثلة التي تمثل الإجحاف في حق الثقافة. لنأخذ في البداية مجال الصحافة المكتوبة، وإن كان الأمر ينطبق كذلك على حقول الصحافة الأخرى؛ لا تستفيد الصحف اليومية والأسبوعية الصادرة بالعربية من عائدات الإشهار نفسه الذي تستفيد منه الصحف الصادرة بالفرنسية، رغم أن سوق الأولى أكبر بكثير من سوق الثانية. والإجحاف الممارس في حق الصحف العربية مضاعف، ذلك أن سعر الإشهار بها أقل من السعر الذي تحدده الصحف الفرانكفونية. ورغم محدودية انتشار هذه الأخيرة وارتفاع سعر الإشهار بها، ستجد أن مداخيل عدد واحد منها، من عائدات الإشهار، يكفي لأداء أجور العاملين بها مدة شهر، أو شهرين أحيانا؛ فيما تواجه الصحف العربية اليوم خطر الإفلاس، رغم الدعم الذي تقدمه لها خزينة الدولة.

ينطبق الأمر ذاته على مجال النشر والكتاب. خلال السنوات الست الأخيرة التي باشرت فيها مؤسسة الملك عبد العزيز آل سعود للدراسات الإسلامية والعلوم الإنسانية إصدار تقرير سنوي حول حصيلة المنشورات المغربية، احتل الكتاب الصادر بالعربية المرتبة الأولى، طيلة هذه السنوات، بنسب تعدت 80 في المائة. إلا أن هذا الكتاب لا يحظى بتوزيع كاف، ولا بجوائز وتتويجات واحتفاءات وترجمات، كما هو الشأن بالنسبة إلى الكتاب الصادر بالفرنسية. من جهة ثانية، لا يتلقى الكتاب الصادر بالعربية والأمازيغية وباقي اللغات المغربية سوى دعم وزارة الثقافة، فيما يستفيد الكتاب الصادر بالفرنسية من أشكال دعم مختلفة (وزارة الثقافة، المؤسسات المالية كالأبناك، التمثيليات الدبلوماسية في المغرب، المفوضية الأوربية، المراكز الثقافية الأجنبية كالمعهد الفرنسي ومعهد سربانتيس، والمنظمات الثقافية كمؤسسة «هانس سايدل» ومؤسسة «كونراد أديناور»، الخ). وبمقدور أي مواطن أن يرى كيف تغرق المكتبات الرئيسة في الدار البيضاء أو الرباط بالكتب المستوردة من فرنسا، وكيف يُعتنى بها في رفوف أنيقة، فيما يهمش الكتاب المغربي العربي والأمازيغي والحساني، الخ.

من ناحية أخرى، تستفيد بعض المهرجانات، مثل موازين الرباط وتيميتار أكادير وفيلم مراكش وغيرها، من أشكال دعم مختلفة بميزانيات مرتفعة تصرف أساسا على المشاركات الأجنبية. وفي الوقت الذي يتلقى فيه «الفنان» الأجنبي تعويضا سخيا عن مشاركته، يكاد لا يتجاوز ما يتلقاه «الفنان» المغربي عن مشاركته قيمة «غْرامة» في عرس أو حفلة عائلية بسيطة. أضف إلى هذا المفارقة القائمة بين مختلف المهرجانات الثقافية المغربية، حيث تتلقى هذه المهرجانات، وكذا مواسم الزوايا والتبوريدة، ميزانيات ضخمة، فيما تضرب جمعية تعنى بالأدب والفكر، أو تهتم بصقل مواهب التلاميذ والناشئة، ألف حساب لتمويل حفلة شاي، فما بالك بإقامة كاتب أو صرف تعويض له عن مشاركته.

تحملنا هذه المقارنات إلى مجال آخر، حابل بمفارقات خطيرة، هو مجال المؤسسات. ففي الوقت الذي أقامت فيه الحكومات مؤسسات اقتصادية فاعلة إلى حد كبير (المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، مجلس المنافسة…) وأخرى ذات طبيعة قانونية/حقوقية أو اجتماعية (مؤسسة الوسيط، المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الأعلى للوظيفة العمومية…)، تعاني آلامَ المخاض مؤسساتٌ ذات طبيعة ثقافية، مثل أكاديمية اللغة العربية، فيما تواجه أخرى تحدي الاستمرار بصعوبة، مثل المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، أو تتخبط في مشكلات التأسيس، مثل المجلس الوطني للصحافة، أو تعاني عقم الاقتراح والإنتاج، مثل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، الخ. وما ينطبق على واقع المؤسسات الثقافية، ينطبق على مشاريع القوانين المعطلة الخاصة بالقطاع الثقافي، وفي مقدمتها طبعا مشروع ترسيم اللغة الأمازيغية وتوسيع نطاق تداول حرف تيفيناغ.

لا يقتصر غَمْطُ الثقافة حقها على هذه المجالات والقطاعات، بل تشمل أشكال إنكار هذا الحق مجالات ومناحيَ أخرى. من أمثلتها ما يلي: استفادة ذوي الاحتياجات الخاصة من التعليم والقراءة والفرجة، محدودية تعميم تقنية برايل، ولوج النساء للتعبيرات الثقافية المختلفة، نقص/غياب البنيات الثقافية في البوادي والقرى، انعدام شمولية تغطية الأنترنت (الأمر الذي أثر سلبا في مبدأ تكافؤ الفرص في مجال التعليم عن بعد مثلا)، إقصاء الهوامش من المشاركة في الفعل والإنتاج الثقافيين والفنيين، الخ. من هنا، يقتضي مفهوم العدالة الثقافية إعطاء الأولوية للمكونات الوطنية، بما تتضمنه من مقومات ومؤسسات وفعاليات ونتاجات. إذ من الأولى، مثلا، إنصاف العربية، بالنظر إلى حضورها ومساهمتها الحضارية وتأثيرها وانتشارها، الخ. كما تستلزم المقتضيات الدستورية الجديدة العناية بباقي التعبيرات اللسانية المحلية، في مقدمتها الأمازيغية والدارجة، إذ لا ضير في استخدامهما في التلفزيون والإشهار ومكاتب العمل ومختبرات البحث العلمي، الخ. ختاما، يجب القول إنه مثلما يلحق الظلم بالإنسان، فإنه يلحق كذلك بثقافته ومجاله الروحي والرمزي، وما أشرت إليه آنفا هو ظلم بيّن. فحذار من الإساءة إلى مقومات شخصيتنا المغربية.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي