محمد جليد يكتب: هل استخلصنا الدروس الكافية من الوباء؟

15 يوليو 2020 - 18:00

على امتداد أربعة أشهر، طرحت أسئلة كثيرة حول حياة الإنسان ومستقبله الغامض، في ظل تفاقم الأزمة الصحية الراهنة.. أسئلة مطبوعة بتوجسات عامة تجاه الوباء، وشكوك عميقة في قدرة الدولة على محاربته، وارتياب مخيف حول مآل الإنسان ولقمة عيشه في السنوات المقبلة. وفي ذروة الخوف والرهبة اللذين زرعهما الوباء في النفوس، حصل إجماع تلقائي على ضرورة إعادة النظر في نظامنا الاجتماعي والاقتصادي، خاصة أن هذه الأزمة زامنت الإعلان الرسمي عن فشل نموذجنا التنموي، وإنشاء لجنة خاصة للتفكير في مشروع نموذج تنموي جديد.

غير أن المرء يلاحظ، مع تخفيف إجراءات العزلة حاليا، العودة المحمومة إلى ما كانت عليه الحركية الاقتصادية والاجتماعية من قبل؛ ازدحام في المقاهي والمطاعم، فوضى عارمة في الشوارع والفضاءات العامة، اختلالات في تنظيم الأسواق اليومية والأسبوعية، بلبلة أمام الإدارات المختلفة، الاستهتار بصحة الإنسان داخل المعامل والمصانع، الخ. فهل استخلصنا الدرس من الوباء فعلا؟

ما من جواب حاسم عن هذا السؤال حتى الآن. فالحكومة ماضية في خطواتها الرامية إلى لبرلة الاقتصاد، في مقابل التضييق على مطالب توسيع هامش الحقوق والحريات وضرورة الاهتمام بالإنسان أولا. لا يهمها الآن أن تنظر في حربها الخاسرة ضد فيروس كورونا وفشلها الذريع في وقف انتشاره الذي بات متسارعا أكثر اليوم. ونحن المغاربة -مواطنين ونخبا- لسنا معنيين بالمطالبة بضرورة التريث من أجل استخلاص الدروس. من هنا، لا بد من القول إن اللحظة الراهنة تستدعي اعتماد سياسة مغايرة تضع نصب عينيها النهوض بالإنسان المغربي.

من جهة أولى، وجد مئات الآلاف من المغاربة في آخر مارس الماضي أنفسهم بلا عمل، مضطرين إلى انتظار رسالة هاتفية، ولو كان ذلك في قمة جبل، رسالة تشبه الإغاثة، توجههم إلى صندوق الضمان الاجتماعي أو إلى أقريب بنك أو بريد. تكشف هذه العالة الجماعية أن الاقتصاد ليس اقتصاد أمة، بل اقتصاد قلة. من هنا، يجب أن يكون الاقتصاد الذي يطمح إليه المغاربة موضع إجماع غالبيتهم، لا نتاج قرار نادي الأثرياء الذي بات يفرض إرادته على الحكومة، بمساندة الشركات العالمية العابرة للحدود والمخترقة لسيادة الأوطان. فغالبية المغاربة تصرخ منذ عقود أن النموذج الاقتصادي المعتمد منذ الاستعمار الفرنسي إلى اليوم لم ينته بنا إلى حيث كنا نأمل جميعا، أي إلى مجتمع الرفاهية. ولأن الأزمة الاقتصادية أخذت، منذ بداية مارس الماضي، تسري في شرايين المجتمع، فإن الحناجر ستصرخ بحدة أكبر من الماضي، مجددة المناداة بمطلب إعادة الثروة إلى مستحقيها، ووقف امتهان كرامة الإنسان. والخبر السار هنا هو أن الوباء الراهن يشرع آفاقا اقتصادية من شأنها أن تتبنى ما يسمى بالتنمية البشرية الفعلية -لا الشعارية- والتنمية المستدامة، تلك التي تراعي صحة الإنسان، وتتفادى توظيف المواد الكيميائية في الزراعات الغذائية والصناعات الاستهلاكية، وتتحاشى إلحاق ضرر جسيم بالطبيعة (تحسب للفرشة المائية حسابها، وتراعي نقاء الهواء، ولا تلوث الفضاء، الخ.). هكذا، يجب أن ترتكز قرارات الحكومة، من الآن فصاعدا، على الوعي الاجتماعي والبيئي، وألا تصرف أي درهم في أي مشروع لا يلتزم بالمصلحة الاجتماعية والبيئية للمجتمع المغربي.

من جانب ثان، تتيح الأزمة الصحية الراهنة للحكومة فرصة من ذهب لاستعادة قطاعات أساسية لم يستجب فيها القطاع الخاص لانتظارات المغاربة وتطلعاتهم. تأتي في مقدمة هذه القطاعات الخدمات الصحية، حيث يلاحظ أن الرأسمال الخاص أخفق في توفير الأجهزة الطبية المتطورة، ولم يساعد، على غرار نظيره في دول أخرى، على تطوير مختبرات البحث الطبي والنهوض بصناعة الأدوية والاستثمار في الموارد الطبيعية، والنباتات الطبية التي تزخر بها أرض المغرب، ولم يوفر علاجات رخيصة، بل أنهك جيوب المرضى المغاربة… ومن المفارقات المسجلة في هذا الباب أنه في الوقت الذي انفتحت رساميل الأثرياء وخزائن الأبناك للاستثمار في القطاع الصحي، أخذ الأطباء يهاجرون إلى الخارج، في ما يشبه الفرار الجماعي من «جنته» المالية الواعدة بالثراء. هل سيتيح المستقبل مخرجا من هذه المفارقات الصارخة والخطيرة أفضل مما تتيحه جائحة اليوم؟

أما الدرس الأخير، فهو درس بناء الإنسان؛ أي إعادة تشكيل فكره ووعيه، بما يسمح بوجود مواطن فاعل بشكل إيجابي، ومتفاعل مع قرارات الحكومة والدولة بفكر عقلاني وعين رصينة. ينطلق هذا الدرس من ملاحظة ومقارنة. أما الملاحظة، فقوامها ارتفاع عدد المعتقلين المتهمين بانتهاك إجراءات الطوارئ. وإذ يمكن تفسير هذه الملاحظة باستهتار كثير من المواطنين بالصحة الجماعية، فإنه يفيد كذلك -على نحو واضح- بأن التعليم المغربي لا يبني الوعي المواطن، حيث لايزال يسيطر على المسؤولين ذاك التخوف الذي يفيد بأن التعليم الجيد هو الذي أطر الاحتجاجات القوية في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، وانتهى إلى وجود حركة سياسية قوية ظلت تطالب بإشراك المغربي في إدارة شؤون بلاده، وهو ما لم يرض أصحاب الحال حينها. لكن فيروس كورونا كشف أن كلفة الأمية أثقل من كلفة المعرفة والعلم. من هنا، تكشف المقارنة ببعض الدول العربية، مثل تونس والأردن حيث يلعب التعليم دورا مهما، ضرورة التخلص من الخوف المستحكم من نتائج التعليم الجيد، وتغيير النظرة المستوطنة في قرارات الحكومة تجاه هذا القطاع الأساسي. كما اتضح أنه لا بديل عن الاهتمام بالثقافة لبناء الإنسان المتفاعل مع قضايا وطنه تفاعلا إيجابيا. وفي هذا قال الأديب الراحل محمد زفزاف في أحد حواراته المتميزة: «أقول إنه يجب الاهتمام بالثقافة، لأن شعبا دون ثقافة هو في عداد الموتى، كما أقول للدولة أن تهتم بزرع الأشجار في هذا البلد، وهنا تحضرني كلمة قالها لي أحد الكتاب الليتوانيين: ‘‘غاباتنا هي بترولنا’’. على المغاربة أن يغرسوا عددا كبيرا من الأشجار إلى جانب اهتمامهم بالثقافة، وعليهم أن يهتموا ببحارهم وأسماكهم التي يسرقها الآخر منا. إني أركز على ضرورة الاهتمام بالثقافة لأن المغرب هو ابن رشد، وابن خلدون، وابن بطوطة، ولسان الدين بن الخطيب».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي