يونس الخراشي يكتب: بين قصتين

25 يوليو 2020 - 18:00

لا ينجح الرياضيون في رهاناتهم لأنهم تدربوا جيدا، بل لأنهم كانوا، في ساعة الحسم، بجاهزية تامة. وهذه لا تعنيفحسب أن يكون الرياضي مستعدا بدنيا، بل ونفسيا وشعوريا أيضا. فقد يكون جسمه على أهبة، ولكن مشاعره لاتسايره، وأفكاره تعاديه.

تقول البطلة الأولمبية، نوال المتوكل، وهي تحكي عن الليلة التي سبقت تتويجها بذهبية أولمبياد لوس أنجلس، صيف سنة1984، إن مدربيهما الأمريكيين توجاها قبل أن تتوج، وذلك حين اقترحا عليها، وهم في قاعة بيضاء وكل ما فيها أبيض،أن تصعد فوق كرسي، وتعلي الصوت بالنشيد الوطني، ثم تقول بصوت مرعد: «أنا المتوجة، أنا الأولى، أنا الفائزة».

وتتوقف البطلة، والوزيرة السابقة، وعضو اللجنة الأولمبية الدولية، عن الحكي، ثم تضع النقط على الحروف وهي تقول: «دون اهتمام بهذا الشق من حياة الرياضيين ومسارهم لن يصلوا إلى شيء مميز. فقد حفزني قول الملك المرحوم الحسنالثاني: «واحد فيكم أو وحدة فيكم غادي يتوج»، مثلما حفزني محيطي، وخاصة ما فعله معي المدربان الأمريكيان.. بكيت كثيرا وأنا على ذلك الكرسي، وفي اليوم التالي كنت الأولى، وتحقق الحلم».

بعد 32 سنة من ذلك اليوم بالتحديد، وكانت نوال المتوكل مديرة لدورة ريو ديجانيرو الأولمبية، التي نظمت في البرازيلصيف سنة 2016، كان البطل عبد العاطي إيكيدير ينهي سباق 1500 متر؛ البطيء جدا، بإخفاق جديد في مساره. وحين كنا نعود إلى المغرب، جالسني بعض الوقت في الطائرة، ليقول لي: «أنا حزين جدا لأنني لم أستطع أن أسعدالمغاربة. كان يفترض أن أفوز بالسباق، خاصة أنه سار بإيقاع بطيء».

ولعله كان ينتظر مني السؤال عن السبب، فسارع إلى القول: «المسألة بسيطة للغاية. فالعداء الأمريكي صديق، وأعرفهجيدا. قال لي إنه لم يفز لأنه أقوى مني ومن بقية المنافسين بدنيا، بل لأن لديه فريقا ذكيا، عرف كيف يشحنه ويحفزه،ويجعله على أهبة من الناحية النفسية، وأقنعه بأنه سيحسم السباق لفائدته». وهكذا، فبينما كنت أعاني للتكيف تدريبيامع الأجواء في ريو، برطوبتها العاليةيقول إيكيديرلم يكن إلى جانبي من يحفزني، ويصفي ذهني، ويصعد بثقتي إلىأعلى، لكي أربح سباقا سهلا للغاية. لقد ضاعت مني ذهبية أولمبية بصفاقة».

هكذا، إذن، وبين قصتين لبطلين مغربيين، في زمنين متباعدين، يتضح إلى أي حد هو مهم للغاية التحضير النفسيوالشعوري للرياضيين، كي يحسنوا التعاطي مع المنافسات؛ والتي تشبه إلى حد بعيد جدا ساعة الاختبار، حيث يقف كلرياضي مع نفسه، فيشعر بأنه يتحمل المسؤولية وحده، وبأن عليه، بالضرورة، أن يحسن الاختيار، ويتخذ أفضل قرار، وأنيبقى متنبها طيلة المدة التي تقتضيها منافسته، لكي يصل في الأخير إلى ما ظل يحلم به فترة طويلة، ويعمل لأجله بتعبومواظبة.

ليس هذا وحسب، بل ويتبين لنا أيضا إلى أي حد لا تتغير الأشياء، في رياضتنا، إلى الأفضل، مهما مر من زمن. فقد كانالمفترض، وقد فطنت نول المتوكل، سنة 1984، إلى أن الإنجاز الرياضي ليس نتيجة حصرية للإعداد البدني، بقدر ما هونتيجة لإعداد بدني ونفسي وشعوري، وربما أكثر من ذلك بكثير، أن يُحسم الأمر، فلا يأتي بطل آخر، مثل إيكيدير، بعد32 سنة، ليشتكي غياب التحفيز والمرافقة النفسية، ويتحسر على ضياع ميدالية غالية جدا بفعل خطأ في التعاطي معنفسيته ومشاعره، وربما حتى مع لياقته البدنية.

المصيبة الأكبر، أنه قد يأتي بطل غير نوال وإيكيدير، بعد سنين عددا، ليقول لنا، متحسرا، إنه ضيع ميدالية أو رقما قياسياأو بطولة، فقط لأن أحدا لم يهتم بنفسيته ومشاعره قبل وأثناء اليوم الحاسم. فنحن لم نر الاهتمام اللازم بهذه الجوانب منحياة رياضيينا، ولم نر بالتالي تفعيلا، على أرض الواقع، لاهتمام من هذا القبيل، يقتضي سن قوانين وتدبيج مواثيقأخلاقية وترسيخ ثقافة الاعتناء بالرياضي المغربي بصفته إنسانا، وليس فقط رياضيا متعاقدا مع جهة ما، ويلزمه العقدبأن يتمرن من الساعة الفلانية إلى الساعة العلانية، وأن يركض يوم المنافسة، ويقفز. وانتهى.

المرجح أن الرياضة العالمية ستأخذ منحى يصعب علينا مسايرته إن ظللنا على حالنا، غرقى في تفسير بعض القوانين،حتى تأتي أخرى تنسخها، فنغرق من جديد في التلاسن بشأن تأويلاتها، تماما مثلما حدث، عبر التاريخ، بين فرق منالفقهاء بشأن الآيات المتشابهات، والأحكام الخاصة بالفروع، وفروع الفروع، فيما الأمم تبحث، اليوم، وغدا، في مناخالمريخ، وسطح الشمس، وأيهما الأفضل؛ أن يعمل المواطنون أربعة أيام فقط، أم ثلاثة، وكيف ستصرف الرواتب، المتأتيةمن الضريبة على الرقمنة، للعاطلين.

فالفورة الرقمية تغلغلت في صلب الرياضة ومستقبلها. وهناك ترجمات واضحة في الملاعب للاختبارات الناجحة التييجريها رجال الفضاء، رياضيا، إعدادا لابتعاثهم في مهمات علمية. وربما صارت تقنية «حكم الفيديو المساعد»، بعدفترة غير بعيدة، محط سخرية من جيل جديد من الجمهور، وهو يرى تقنيات متطورة جدا في الملاعب، من قبيل شاشةافتراضية تظهر أمام عيني الحكم تفاصيل الخطأ، وحديث المدرب مع لاعبيه وهم يركضون، وتمكينهم من تغيير الخططبتقنية التواصل عن بعد، وحساب الطبيب والمعد البدني لضربات القلب ومستوى الحامض اللبني في الجسم وهمايجلسان في كرسي الاحتياط، وربما حساب الحالة النفسية أيضا بموازين جديدة.

التغيير ضرورة لتطوير الأشياء كلها، والرياضة ضمنها. ولكن لا يمكن إحداث التغييرات ما لم يقع الاتفاق على ما نريدالوصول إليه، والتوافق حول الضوابط التي تؤطر الاختلاف بين من يعنيهم الأمر، لأن ذلك من شأنه أن يضع رياضتنا فيالسياق العالمي للتطور، والخروج، بسرعة، وبحكمة، من التيه الذي تعيشه منذ زمن، بفعل غرقها في تفاصيل هامشية وبلامعنى.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي