ركن السينما.. فيلم «السجين الأخير»

26 يوليو 2020 - 07:00

يعود المخرج الألباني، بوجار أليماني، في فيلمه الأخير «السجين الأخير»، إلى فترة عصيبة وحالكة من تاريخ بلاده، تلك المتعلقة بالاستبداد والطغيان أيام الحكم الشيوعي. إذ يروي من خلال قصة معتقل سياسي حكاية انهيار هذا الاستبداد الذي حكم ألبانيا بقبضة حديد ونار.

في سنة 1991، كانت ألبانيا لاتزال دولة دكتاتورية، بل الدولة الدكتاتورية الوحيدة التي يحكمها نظام شمولي في أوربا كلها. إذ انطوت البلاد التي تعرف باسم «بلاد النسور»، وانغلقت على نفسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بعدما أحكم الزعيم الشيوعي أنور خوجة (1908-1985) قبضته على دواليب البلاد، وحكمها بمزاجية مطبوعة بجنون العظمة ونزوع متعطش إلى الدماء، انتهت إلى بناء آلاف الملاجئ والسجون والمعتقلات. لكن الاتحاد الأوربي نجح تدريجيا في إنهاء الحكم الشيوعي، وإرغام الساسة الذين جاؤوا بعد خوجة على إنهاء فترة حالكة وعصيبة، ما سمح بتغيير الظروف الاقتصادية والاجتماعية.

من هذا التغيير ينطلق فيلم المخرج الألباني بوجار أليماني الموسوم بـ«السجين الأخير»، الذي يروي قصة رجل معتقل في سجون خوجة منذ 15 سنة. سجون أقل ما يقال عنها أنها تعود إلى العصر الوسيط. إذ تقرر السلطات أن تنقله من معتقله الواقع في منطقة جبلية مهمشة إلى العاصمة «تيرانا» من أجل الإدلاء بشهادة أمام ممثل السلطات الأوربية. لم يكن هذا الممثل سوى رفيق سابق من رفاق هذا المعتقل الألباني الذي يدعى «ليو»، والذي كان يشغل منصب أستاذ. لكن الرحلة من السجن إلى العاصمة، على متن سيارة رباعية الدفع، ستشهد حدثا لم يكن متوقعا: حصول عطب ميكانيكي في محرك السيارة وسط جبال وعرة وباردة. يبدو المعتقل السياسي مرتابا من مرافقيه. حتى الهاتف لا يشتغل بشكل جيد، مثلما هو حال البلاد كلها.

اختار المخرج بوجار أليماني طريقة قاتمة، تكاد تكون حزينة، ليروي حكاية انهيار النظام بالكامل. فالسيارة، التي ترمز هنا إلى نظام الحكم، هي سيارة حديثة من حيث مظهرها، لكن محركها لا يقوى على السير. ومما لا شك فيه أن المنطقة الجبلية الوعرة التي تتعطل فيها السيارة يقصد بها حجم المشكلات المتراكمة على البلاد. والمعتقل الذي كان يقترح الحلول في وقت سابق يجد نفسه هنا شاهدا على هذا الانهيار الذي يستدعي حلولا أخرى.

من جهة ثانية، اختار المخرج الإيجاز، باعتباره طريقة للتعبير عن واقع الحال. إذ يعمد إلى تصوير ألبانيا، بعيدا عن التأثيرات التي تضفي جمالية على المشاهد والأمكنة، حيث يظهر كل شيء بنيا ورماديا وباهتا وقبيحا. الزمن خريفي وشتوي قاس. يظهر الرجال صامتين. منهم من أدرك أن النظام سيتغير، ومنهم من تجاهل الأمر، ومنهم من أخذ يتخيل ألبانيا في صورة جنة ديمقراطية وحرة، لكنهم يرون جميعا أن النظام الشيوعي آخذ في الانهيار دون أن يقوى المتحمسون له والمتعاطفون معه حتى النخاع أن يفعلوا شيئا من أجل إنقاذه. أخذت موازين القوى تتغير لصالح نخب أخرى لم تكن ظاهرة من قبل، كانت مسجونة كما المعتقل السياسي «ليو».

لكن، هل سيعانق السجين الحرية من جديد؟ هذا مما لا شك فيه. بعدما تعطلت السيارة، أخذ يشعر بأنه حر، ولو مؤقتا، لكنه لم يكن يدرك أنه على بعد بضع ساعات فقط من استعادة حريته. ورغم أنه لم يكن يعرف وجهته المقبلة، حيث اعتقد أنهم ينقلونه إلى سجن آخر في الغالب، فإنه لم يفكر في الفرار لحظة تعطل السيارة. فطبيعة التضاريس المحيطة به ستساعده على ذلك. ومقاومته على طريقته متجذرة في طبيعة أفكاره وتكوينه ومشاعره، بل وأخلاقه التي لم تسمح له بتعريض نفسه لخطر يحتمل أن ينتهي به نهاية مأساوية.

يسعى المخرج إلى أن يتردد صدى فكرة فيلمه بطريقة خاصة تعكس التاريخ المحلي، وتغوص في مشاكل البلاد التي كان من الممكن تفاديها. إذ يلتزم أليماني بسير المعتقلين السياسيين في بلاده إلى حد كبير، حيث لم يدخل عليها أي تخييل، ولم يمزجها بتجارب الاعتقال كما عاشها معتقلون آخرون في بلدان أخرى، كما لم يسع إلى أسطرة هذه التجارب المحلية، محاولا أن يجعل من فيلمه عملا تأريخيا بصريا يوثق فترة حالكة من تاريخ بلاده. غير أنه يميل إلى أن يطرح أسئلة فلسفية حول وجود الإنسان الألباني، وقدره مع نظام حكم وحشي وهمجي لم يكن يبالي بقيمة هذا الوجود نهائيا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي