يونس مسكين يكتب: جيوب المساومة

17 أغسطس 2020 - 18:00

كان لافتة للنظر، خلال اجتماع لجنة المالية بمجلس النواب يوم الثلاثاء الماضي، تلك العبارة التي استعملها وزير الاقتصاد والمالية، الآتي من عالم البنوك والتقنوقراط، محمد بنشعبون، للحديث عن الصعوبات التي يواجهها مشروعه الكبير لإصلاح المؤسسات العمومية. فالوزير التقنوقراطي وظّف عبارة تعود «ملكيتها الفكرية» إلى الزعيم الاتحادي الراحل، عبد الرحمان اليوسفي، الذي يعتبر أول من «اخترع» هذا التعبير، حسب صاحب كتاب: «عبد الرحمان اليوسفي.. التناوب الديمقراطي المجهض»، الصحافي محمد الطائع.

بعض «الاجتهادات» ذهبت في تحليلها إلى إسقاط عبارة «جيوب المقاومة»، التي استعملها بنشعبون، على رئيس حزب التجمع الوطني للأحرار، عزيز أخنوش، والمحيطين به، والذين هاجموا بنشعبون بشدة في الفترة الأخيرة. لكن، ومن باب الأمانة، لا بد من التنبيه إلى أن سياق الحديث، الذي جاء على لسان بنشعبون، كان في إطار تأكيد عدد من النواب البرلمانيين رصدهم تحركات تقوم بها بعض المؤسسات العمومية المعنية بالحل والإدماج ضمن الإصلاح المنتظر، وهو ما تؤكده معطيات أخرى كثيرة، بالنظر إلى أن الحريصين على بقاء هذه المؤسسات قادهم خوفهم من ضياع «البزولة» إلى القيام باتصالات وتحركات مكثفة حد العشوائية، ما جعلها مكشوفة ومفضوحة.

رغم ذلك، يظل التفسير المتعسف الذي أعطاه البعض لعبارة «جيوب المقاومة»، وربطها بقيادة حزب التجمع الوطني للأحرار، جديرا بالاهتمام، لأن المشهد يصبح متناقضا، بل فرجويا، حين أصبح واقع الحال يسمح بمجرد تصوّر قيادة شخصية تقنوقراطية عملية الإصلاح، ومواجهتها من لدن «المكون السياسي» بالصد والمقاومة.

الحقيقة، التي يتناقلها بعض الهامسين في صالونات الرباط، هي أن مجيء محمد بنشعبون إلى وزارة المالية بعد الإقالة الملكية الصارمة لوزير «الأحرار» السابق في المالية، محمد بوسعيد، ارتبط في الأذهان بسعي واضح نحو تحصين وزارة المالية، وإغلاق صنبور الامتيازات والتساهلات أمام شخصيات جيء بها إلى حزب الحمامة على سبيل «صبغ التقنوقراط»، فكبرت وتمدّدت إلى درجة أصبح معها التمييز بين مصالحها الشخصية والسلطة شبه مستحيل.

يومين فقط بعد الخرجة المثيرة لوزير المالية التقنوقراطي، الذي قال إنه من الطبيعي «دائما عندما يكون هناك إصلاح عميق في أي ميدان ما، تكون هناك مقاومة وجيوب للمقاومة»؛ كنا أمام مثال آخر لكيفية تحوّل «الفاعل السياسي» إلى مصدر لعرقلة الإصلاح وإفشاله، حين صدرت بشكل رسمي تشكيلة «الهيئة الوطنية لضبط الكهرباء»، وتبيّن أن كلا من رئيسي غرفتي البرلمان اعتمدا منطق القرابة والولاء الشخصي لاختيار من يفترض فيهم أن يشكلوا هيئة تحمل من الرهانات الاقتصادية والاستراتيجية ما لا يسمح بمثل هذه الحسابات.

وتصبح الطامة أكبر، حين نعلم، كما سارعت الشبكات الاجتماعية إلى التنبيه إلى ذلك، أن كلا من الاتحادي الحبيب المالكي و«البامي» حكيم بنشماش ينتميان إلى اللجنة الملكية المكلفة بالوقوف على حقيقة ما جرى في مداولات مجلس المنافسة نهاية الشهر الماضي. فإذا كانت المبادرة التي قام بها القصر لإخراج تفاصيل ما جرى على خلفية تلك المداولات، من شد وجذب، إلى العلن تنم عن حرص واضح على حماية ملف حساس مثل المنافسة في قطاع المحروقات من دهاليز «الكولسة»، وإحاطة الموضوع بأقصى درجات التحصين، من خلال استدعاء مؤسسات دستورية للنظر في ما جرى؛ فإن التخوف من مآل هذه الخطوة يبقى مشروعا، حين نرى ما فعله رئيسا غرفتي البرلمان بتعيينات خولهما إياها القانون بصفتيهما المؤسسيتين، فتعاملا معها بمنطق «الوزيعة»، كما قال الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية.

بما أن الحديث عن موضوع جيوب المقاومة قادنا من محاولة بنشعبون الإصلاحية إلى ملف المحروقات المأزوم؛ دعونا نذكّر بأن رئيس مجلس المنافسة، إدريس الكراوي، كان، منذ شهور قليلة، وقبل أن يبادر بعض أعضاء مجلسه إلى مراسلة الديوان الملكي للتشكيك في نزاهته في موضوع العقوبات التي ينبغي إنزالها ببعض شركات المحروقات التي ثبتت ممارستها للاحتكار والاتفاق على الأسعار؛ قد وجّه بدوره رسالة إلى الديوان الملكي، تحدث فيها عن جيوب المقاومة، وكيف تلعب في المنطقة الفاصلة بين المؤسسات الرسمية والقصر الملكي، لإفشال الإصلاحات.

رسالة الكراوي هذه، التي صدرت في لحظات انكباب مجلسه على البت في ملف المحروقات، كانت مطوية بعناية ومدرجة داخل كتابه الذي يحمل عنوان: «عبد الرحمان اليوسفي.. دروس للتاريخ»، والذي انطلق فيه الكراوي من تجربته داخل ديوان عبد الرحمان اليوسفي في فترة قيادته حكومة التناوب.

ففي جزء من هذا الكتاب، يتحدث رئيس مجلس المنافسة عن «جيوب المقاومة» التي واجهتها حكومة اليوسفي، مميزا بين مرحلتين مختلفتين؛ الأولى جرت في عهد الملك الراحل الحسن الثاني، حيث لعب وزير الداخلية الراحل إدريس البصري دور التشويش والعرقلة؛ والثانية بعد اعتلاء الملك محمد السادس العرش، حيث برز جيل جديد من جيوب المقاومة متعددة المصادر، «مشكلة تارة من بعض مكونات الأغلبية، ممن لهم مصلحة سياسية في إفشال التجربة، وتارة أخرى من داخل حزب الوزير الأول، وحتى من داخل الوزارة الأولى، وجزء آخر من هذه الجيوب كان يحسب على الدوائر المقربة من القصر».

إلى حين التأكد مما إن كانت خطوة الكراوي هذه شكّلت شكوى مبكرة و«مشفرة» من جيوب المقاومة التي يحتمل أنها واجهته في مهمته على رأس مجلس المنافسة، يجدر بنا الانتباه إلى أن العبارة التي نحتها عبد الرحمان اليوسفي قد تكون واقعة تحت طائلة التقادم. فكلمتا «الجيوب» و«المقاومة» تحيلان على الأقلية والاستثناء والهامش، والذي يلجأ إلى التشويش والعرقلة للدفاع عن مصالحه، و«مقاومة» الإصلاحات التي تهدد بزوالها. وكان هذا «الهامش» يتحرك من مواقع داخل رقعة السلطة أو عالم المال أو دائرة التقنوقراط. أما اليوم، وقد أطبق ثلاثي السلطة-المال-التقنوقراط على مجمل البناء المؤسساتي، فإنه لم يعد بحاجة إلى دور «جيوب المقاومة»، بل أصبح الإصلاح هو من يلجأ إلى أسلوب «الجيوب» و«المقاومة». أما المركب الثلاثي، فقد انتقل إلى مرحلة جديدة، أطلق فيها جيلا جديدا من الجيوب، يجدر بنا تسميتها بـ«جيوب المساومة».

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي