بلال التليدي يكتب: حكومة كفاءات

28 أغسطس 2020 - 20:10

أحاول أن أفهم هذه الأيام سر الوصفة المتطابقة لأزمة السياسة في تونس والمغرب. فتونس هي الأخرى وصلت تجربتها الديمقراطية إلى حالة “بلوكاج”، وأصبحت “حكومة كفاءات” هي وصفة النخب العليا لتجاوز أزمة السياسة. فقد عين الرئيس التونسي قيس السعيد رئيس الوزراء المشيشي من خارج اقتراح الكتل السياسية، رغم أن بعضها قدم مرشحا مشتركا، وقد صدقت التوقعات، وسلم لائحة بأعضاء حكومته غير الحزبية إلى الرئيس، وسط تضارب مواقف الأحزاب إزاءها.

 تبدو المعركة واضحة في تونس، فطبيعة النظام الدستوري المختلط بين الرئاسي والبرلماني، جعلت الرئيس يستثمر الأزمة السياسية الناتجة عن سقوط الحكومات الحزبية بشكل متوالي، ليأخذ المبادرة ويعين رئيس حكومة مقربا منه، ويسير في اتجاه حكومة كفاءات تكنوقراطية بعيدا عن الأحزاب السياسية.

البعض يعتقد أن توجه الرئيس هذا فيه مقامرة غير محسوبة العواقب، لأن الدستور يلزم بأن تتم المصادقة على الحكومة من الكتل النيابية، والوضع الطبيعي ألا تحظى بالتأييد بحكم أن الرئيس اختار بشكل انفرادي أن يمضي في هذا الاتجاه بدون استشارة للأحزاب ولا مباركة منها.

لكن الأمر ليس بهذا التبسيط، فليست كل الأحزاب على مستوى واحد من التقدير السياسي، فثمة من يظهر موقفه الرافض لحكومة المشيشي، وثمة من يؤيدها بحجة أن الحكومات الحزبية لم تستطع أن تضمن استقرارا سياسيا  بتونس، وثمة طرف ثالث، محكوم مبدئيا بفكرة رفض حكومة كفاءات من خارج الأحزاب بحجة أن ذلك يضعف التجربة الديمقراطية ولا ديمقراطية بدون أحزاب، لكن سيكون مضطرا لتأييد هذه الحكومة خوفا من تداعيات إسقاط الحكومة، لا سيما وأن الوضع الدستوري يتيح خيارا واحدا هو انتخابات تشريعية مبكرة، إذ ثمة تقدير أنها ستواجه برفض شعبي عارم.

مهما يكن، فالتقدير أن حكومة المشيشي سيتم تأييدها برلمانيا الاثنين المقبل، لكنها ستبقى دائما تحت رحمة الأحزاب السياسية، حتى  ينضج  لدى الرأي العام أن الحل في انتخابات تشريعية مبكرة تأتي بخارطة سياسية جديدة تمكن من إقامة حكومة حزبية لا تعرف نفس مصير الحكومات السابقة.

في المغرب الوضع أكثر إحراجا من حيث الوضع الدستوري، لأن الدستور ينص على أن يكون رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات، وأن تشكل الحكومة من خلال المشاورات التي يجريها رئيس الحكومة المعين مع الأحزاب السياسية. ومن ثمة، ففكرة “حكومة كفاءات”، على الرغم من اشتداد الطلب عليها، لم تتحول إلى واقع شامل، بل لم تجد تنزيلها إلا من خلال  تعيين هذه الكفاءات بعد صبغها سياسيا في بداية الأمر، وفي اللحظة التي بلغت فيه درجة الطلب على “حكومة كفاءات” أعلى مستوياتها، انتهى الأمر في نهاية المطاف إلى “حكومة بحد أدنى من السياسيين”، دون أن يتم التخلص منهم بشكل كامل كما في التجربة التونسية.

 تتعدد المبررات التي يتم الإدلاء بها لتسويغ مطلب “حكومة كفاءات”. في المغرب، وبعدما جرى توجيه نقد قاس للأحزاب السياسية في خطاب رسمي، بسبب ضعف وظيفتها في الوساطة، بدأ الحديث عن ضعف كفاءاتها وأطرها، وبيروقراطيتها الداخلية التي تقاوم استقطابها للأطر والكفاءات، وحاجة البلاد في هذه المرحلة الصعبة إلى كفاءات وأطر بأفكار إبداعية تتجاوز واقع الشعبوية الذي تسببت الأحزاب السياسية في إنتاجه.

أما في تونس، فالتبرير مختلف، فالنخب العليا، تعتبر أن أزمة الديمقراطية في تونس هي في أحزابها، وأن سقوط الحكومات الحزبية المتوالية يدل على عدم نضجها وعدم قدرتها على بناء توافقات صلبة تستمر إلى نهاية الولاية الحكومية، وأن الأنسب في هذه المرحلة، عدم تكرار هذه التجارب، والمضي لخيار حكومة كفاءات، تكون قادرة على انتشال تونس من أزمتها، ووضعها في سكتها الصحيحة، وأن الديمقراطية في تونس لا يمكن أن تتأسس على واقع انهيار التوازنات المالية والاقتصادية. لكن خلف هذه الحجج، ثمة تغطية لحيثيات كثيرة في واقع السياسة، لا سيما ما يرتبط بتفاعل الداخل والخارج فيها، فما عرفته تونس من معركة سياسية لإسقاط رئيس البرلمان، لم يكن مجرد فعل سياسي داخلي، وإنما ثمة أطراف إقليمية وأجنبية لم تكن بعيدة عن الموضوع، ولم تتردد في إعلان نواياها بإسقاط الإسلاميين في تونس. وفي المغرب، لم تتردد نفس القوى عن إبداء طلباتها  ورغباتها من أجل إزاحة الإسلاميين من رئاسة الحكومة، وربما تحمل المغرب مشاغباتها ومشاكساتها بالإبقاء على الإسلاميين في مواقعهم خوفا على الاستقرار السياسي.

في المحصلة، تبدو التبريرات المقدمة للاستعاضة عن حكومة الأحزاب بـ”حكومة كفاءات” غير مقنعة في السياقين، ويبقى التفسير القريب للواقع، أن النخب العليا، وبعض القوى الأخرى، تريد أن يكون مركز ثقل السياسة بعيدا عن الأحزاب السياسية لا سيما منها القوى الديمقراطية، وأن تكتفي الحكومة بالتدبير فقط، وذلك لا يمكن تصوره إلا بحكومة كفاءات (تونس) أو حكومة كفاءات بحد أدنى من السياسة (المغرب).

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي