يونس مسكين يكتب: سامحنا يا عدنان

14 سبتمبر 2020 - 18:20

رحل الطفل عدنان مغتصبا ومختطفا ومحتجزا، لكنه أبى منذ اكتشفنا أخيرا بقايا جسده الصغير، إلا أن يصفعنا بأقوى ما يمكن أن يكون عليه الصفع من الإيلام والوخز. لقد تألم عدنان واختنق وفارق الحياة، لكنه الآن يؤلمنا بأشد ما يتصوره الإنسان، والدليل صراخنا الجماعي هذا الذي بات يسمع من جميع أنحاء العالم منذ فجر السبت.

استُدرج عدنان واحتجز واغتصب، ثم قتل ودفن على بعد أمتار من بيت والديه، لكنه هنا، يقف فوق رؤوسنا، يصفعنا، يركلنا، يوبّخنا، يحرمنا النوم يكدّر علينا ساعات الصحو. حقّ لك يا عدنان، حق لك هذا العقاب الذي أنزلته بنا ويا ليتنا نكفّر عن خطيئتنا، ليس معك وحدك، بل مع جميع أمثالك من ملائكة الخلد الذين انتهوا إلى مثل مصيرك أو يكادون.

لم يسبّب لنا الفعل الجرمي المأساوي الذي ارتُكب في حق الطفل عدنان هذا الوجع الجماعي فقط، بل أبى هذا الطفل البشوش إلا أن يعرّي كثيرا من تشوهاتنا في طريقه نحو دار البقاء. فقد كان للصورة مفعولها الذي ينبغي أن تحققه، حين وقف وجه عدنان باسما بين أعيـــننا طيلة أيام الأسبوع الماضـــي، مطـــالبا إيانا بالبحث عنه، بــــإنقاذه، بافتكاكه، لكننا فشــــلنا إلـــى أن وشـــى تراب الأرض بمكان إخفاء جثته.

وهو الطفل اليافع البريء، منحنا عدنان دروسا بليغة حين صعقنا على حين غرة لنخرج حقيقة ما نحن عليه. لا يمكن للجنة النموذج التنموي والمعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية والمندوبية السامية للتخطيط وباقي “مختبرات” الفحص والتشخيص، الرسمية وغير الرسمية، ألا تنتبه إلى هذا الاكتئاب الجماعي الحاد الذي عبّرنا عنه، ربما جراء شهور الحجر والتباعد والبطالة والخوف. اكتئاب حاد حوّل جلساتنا ومنتدياتنا الواقعية والافتراضية إلى حفلة صراخ وعراك واشتباك وسِباب وتخوين واتهام… كأني بنا جميعا نخشى أن تلصق بنا التهمة وندرك أننا جميعا مذنبون.

السلوك والخطاب اللذان هيمنا على الشبكات الاجتماعية في اليومين الماضيين لا يمكن أن يمرّ علينا دون أن نقف للاعتبار والفهم. إنه وبكل اختصار انفلات بكل معنى الكلمة، لولى أنه افتراضي لكنا ربما أمام مأساة دموية. وإذا كنا جميعا فشلنا في حماية الطفل عدنان وأمثاله من الأبرياء الذين يغتصبون ويقتلون في غفلة من الدولة والمجتمع، فلنكن على الأقل في مستوى استخلاص ما يجب استخلاصه، ونقيس درجة الغضب الجماعي الهادر الذي تدفّق علينا في اليومين الماضيين. الأعصاب متوتّرة والنفوس متــــعبة والقلق تسيّد المشهد ولا نملك إلا رجــــاء في الألطاف الإلهية كي نخــــرج من هذه الحالة بأقل الخسائر الممكنة.

أذكر أن بعض متخصصي السوسيولوجيا وعلم السياسة، تحدّثوا في بدايات الجائحة، حين كنا نعتقد أننا بصدد “الانتصار” عليها، عن فضل الروابط الاجتماعية التقليدية في مساعدة الدولة في التخفيف من وطأة الحجر، وكيف أن التضامن العائلي والعابر للأسر وبقايا القيم التقليدية ساعدت في تخفيف العبء على الدولة. كما أذكر أنني حضرت قبل بضع سنوات اجتماعا لمسؤول أمني رفيع داخل إحدى قاعات البرلمان، قال فيها إن الفضل الأول في التصدي الناجح للمغرب للإرهاب، هو الدور الذي يقوم به المجتمع، في اليقظة والتبليغ عن كل ما يمكن أن يدل على وجود مشروع إرهابي؛ لكننا في حالة الطفل عدنان، لم نجد أثرا لكل ذلك.

لقد اختطف طفل بريء من باب بيت أسرته، في واضحة النهار وعلى مرأى من العيون والكاميرات، ثم اصطحبه بهدوء واطمئنان إلى حتفه الأخير. وحين انتبهت الأسرة إلى غياب ابنها، استصرخت واستنجدت بالمنظومتين، التقليدية المجتمعية والعصرية الدولتية. اشتعل الفيسوك بصور عدنان ونداءات البحث والنجدة، وطبعت الصور ووزّعت، وجاءت القنوات التلفزيونية وبثّت تقاريرها عن الموضوع، لكن أحدا لم يدلّ على الشخص المشتبه في ارتكابه للجريمة، ولم تفـــلح الكاميرات المبثوثة في جمـــــيع الأركان في إيصالنا إلى مكان احتــــجاز عــــدنان ولا حفرة إخفاء جثته.

هناك شيء عميق، وربما خطير، يتغيّر فينا. أحد المسؤولين الكبار في الدولة قال لي ذات يوم: “لقد خسرنا العصا ولم نربح المدرسة بعد”. إنها لحظة انتقال يطبعها الفراغ والمجهول. المنظومة التقليدية التي كانت إلى وقت قريب توفر لنا بعض الحماية والدعم والتضامن آخذة في الانحلال، بينما تأخرنا، إن لم نقل فشلنا، في بناء منظومة جديدة، عصرية، حديثة، توفر لنا بدائل ما نحن بصدد فقدانه.

حتى لا نحلّق بعيدا ونهرب من الأرق والألم الذي سبّبه لنا مقتل عدنان، دعونا نقول إننا أخطأنا في حقه مرتين. الأولى حين أنتجنا هذا الكائن المفترس الذي يغذي ساديته على براءة الأطفال، وفشلنا في إنقاذه من بين مخالبه رغم كل ما ساقته له الأقدار من إمكانات تواصلية كبيرة روّجت لاختفائه؛ والثانية حين راح كل منا يصفي حساباته الشخصية والفئوية الخاصة على حساب الجثمان الصغير. من لديه حساب من الدولة ومؤسساتها الأمنية راح يشهر في وجهها قميص عدنان، ومن لديه حساب مع القيم التقليدية للمجتمع وجدها فرصة لاستعراض قدراته في جلد الثقافة الجنسية المحافظة وغياب الوعي… ومن كانت لديه خصومة إيديولوجية مع الحداثة وأفكارها وجدها فرصة للمطالبة بالدم وإعدام شخص لم يصدر حتى كتابة هذه السطور أي دليل لإدانته ومعرفة ما إن كان هو بالفعل مرتكب الجريمة أم أحد رفاقه في السكن…

بكل اختصار، لا نمـــلك إلا أن نطأطئ رؤوســـنا خــــجلا وندما وحسرة أمام روحــــك الطـــــاهرة يـــا عــدنان.. رجاء سامحنا.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي