تاريخ المرض من الشيح إلى التلقيح- الحلقة الأخيرة    

26 سبتمبر 2020 - 07:00

@ محمد حبيدة      

يضع الباحث القارئ في صورة المؤسسات والآليات والأدوات التي وضعتها الإدارة الاستعمارية من أجل مكافحة هذه الأمراض. وفي هذا التحليل، المتدرج من الأسفل إلى الأعلى، يرى بوجمعة رويان أن الطب شكَّل أداة أساسية لتمهيد البلاد واستمالة العباد وبسط اليد على المغرب، وفق المخطط الذي وضعه بإحكام مهندس الحماية، الماريشال ليوطي.

 ويبقى « معهد باستور »، الذي رأى النور بالدار البيضاء عام 1929 بمبادرة من الطبيب الفرنسي إميل رُو، في طليعة المؤسسات الصحية التي أنشأها الاستعمار. فقد زوَّد هذا المعهدُ، الذي أظهر للجميع التفوق البيِّن للعلم على الشعوذة والدجل، المستشفيات والمستوصفات بكميات كبيرة من اللقاح، إذ ما بين 1932 و1935 وفَّر ما يقرب من أربعة ملايين جرعة لقاحية لأغراض طبية مختلفة، وأكثر من ثلاثة ملايين لقاح ضد مرض الجدري. لقد شكلت عمليات التلقيح وآليات العلاج المرتبطة بالإسعافات والأدوية ولوازم النظافة حجر الزاوية في معالجة الأمراض والأوبئة، بعدما كانت الأعشاب، من شيحٍ وداد ودفْلة وغيرها من النباتات، هي المكون الرئيسي لمقاومة الداء بمختلف أنواعه. علما بأن الاستعمال العشوائي لهذه الأعشاب كان من وراء مشاكل صحية كثيرة مثل التسمُّم أو التسبب في مضاعفات شتى.

وكان من نتائج عمليات التلقيح هذه تحسن الأحوال الصحية، وما ترتب عن ذلك من تزايد في عدد السكان في الفترة ما بين 1912 و1945، إذ ارتفع هذا العدد من أربعة إلى ثمانية ملايين نسمة. ثم ما لبث أن تواصل هذا التزايد على نحو غير مسبوق في تاريخ المغرب.

ومن أهم ما يحتفظ به القارئ في هذه الدراسة ما يقدمه المؤلِّف من تفسير للأمراض والأوبئة بمقاربة تحليلية تتَّبع المرض منذ ظهوره حتى اختفائه، وفي تطوره بالعلاقة مع الأمراض الأخرى، في الزمان وفي والمكان، وذلك أخذا بعين الاعتبار غياب نوزولوجيا كاملة خاصة بالمغرب. هكذا، أخضع كل الأمراض والأوبئة لتحليل دقيق بالقياس إلى تواريخ ظهورها واختفائها خلال المرحلة الاستعمارية، كما اجتهد في إبراز سياقاتها، كما هو الحال مثلا بخصوص عام 1945، حيث يجد القارئ فصلا كاملا عن مجاعة 1945 المعروفة بـ »عام الجوع » أو « عام بوهيُّوف » بتفسيرات مفصلة عن الصلة بين هذه المجاعة التي نجمت عن توالي سنوات الجفاف، ووباء الحمى الراجعة.

طرح بوجمعة رويان سؤالا محوريا: لماذا استمر المغاربة في ممارسة الطب التقليدي، على علته، بالبيوت والأضرحة والأسواق، على الرغم من وجود الطب الباستوري (نسبة للويس باستور) الذي ينبني على التشخيص قبل العلاج؟ هنا تبدو أهمية البعد الذهني وفعالية المقاربة الأنثروبولوجية. لكن ما يؤكد عليه الباحث هو أن إدارة الحماية لم تقم، ميدانيا، بشيء يذكر للقضاء على الأساليب العتيقة الموروثة عن الأجداد، إذ اكتفت بالعناية بالمدن والقرى المرتبطة بضيعات المعمرين، حيث وفرت اللقاحات والأدوية. ففي الأسواق، بقي الناس أوفياء لما هو مألوف فيما يتصل بالتداوي بالأعشاب، واقتلاع الأضراس، وتجبير العظام، والحجامة، وغيرها، وذلك تحت أنظار رجال إدارة الحماية.

 ويجد هذا الأمر تفسيره في عاملين رئيسيين. أولا، لم يكن للدولة الفرنسية الحامية ما يكفي من الإمكانيات والأدوات والموارد البشرية لتعميم الطب الحديث في كل الأقاليم والجهات، إذ اهتمت بدرجة أساسية بالمدن والبوادي التي كانت تخضع لها خضوعا تاما، والتي كانت ملزمة للعناية بها، خدمة لمصالحها الحيوية في مجالات الفلاحة والصناعة والخدمات. وفي واقع الأمر، كانت هذه السياسة الصحية، المبنية على المصلحة الاقتصادية، والتي رأى فيها صاحب الكتاب أداة أساسية لتمهيد البلاد واستمالة العباد، قد لازمت النظام الرأسمالي حتى داخل البلدان الغربية نفسها. في الولايات المتحدة الأمريكية، مثلا، كانت مؤسسة روكْفِلير قد قامت بحملة صحية ضد دودة الأنكلوستوما الطفيلية بالولايات الجنوبية، وذلك قصد “تحسين كفاءة قوة العمل” ودمج هذه الولايات في دينامية الاقتصاد الرأسمالي.

ثانيا، كان للفرنسيين معرفة بعقليات الناس كونهم يتشبثون بالتقليد ويناهضون كل تجديد. ولذلك، لم يكن من مصلحتهم فرض المستحدثات الطبية على الجميع وبالقوة، تفاديا لكل ما من شأنه الإخلال بالتوازن الاجتماعي المطلوب. لكن الذي تبين مع مرور الوقت، في نهاية عهد الحماية ومرحلة الاستقلال، هو أن الأهالي اقتنعوا بفعالية العلاج الأوروبي في مكافحة الأمراض بالقياس إلى العلاج التقليدي.

لقد حصل انتقال من الشيح إلى التلقيح، إذا صحَّت هذه العبارة، وتحول مركز الثقة من العطّار وما كان يقترحه على المرضى من أعشاب، إلى الصيدلي الذي يقدم أدوية صناعية طبقا لما يقترحه الطبيب. صحيح أن هذا الانتقال جرى بطريقة بطيئة، لكنها طريقة تكتسي قيمة سوسيولوجية أكيدة. هذا، لأن الناس، في نهاية المطاف، في المدن في مرحلة أولى وفي البوادي بعد ذلك، اقتدوا بالذين جربوا فعالية الاستطباب الحديث، وبنيته المنهجية القائمة على أساس التشخيص قبل العلاج والانتظام في تناول الدواء، والوقائية المرتبطة بالنظافة والرأفة بالذات، وذلك ضمن صيرورةٍ تنامى فيها الوعي وتحسن خلالها مستوى العيش، حيث حكَّموا مصلحتهم البدنية أولا وقبل كل شيء.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي