فسحة الصيف.. المغاربة وسياسة الغذاء- الحلقة 1

29 سبتمبر 2020 - 07:00

عبدالله هرهار

 يخوض هذا الكتاب في موضوع يتقاطع فيه الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، حيث انصب فيه جهد المؤرخ محمد حبيدة على المغرب ككل، خلال فترة تاريخية طويلة وشاسعة،بدءا من القرن السادس عشر إلى نهاية القرن التاسع عشر.

ارتبط المغاربة، قبل الاستعمار، بالأرض والسماء، بما يحمله هذا الارتباط من دلالة مادية ورمزية، لأن الأرض هي الشرط الأساس للإنتاج. ويتعلق الأمر بإنتاج يقوم على الضرورة والعادة، إنتاج لا يخرج عن منطق البيولوجيا والثقافة، بما تعنيه البيولوجيا من ضرورة وإكراه، وما تحيل عليه الثقافة من حد فاصل بين الإنسان والحيوان، حد يؤسس للرمز وللقيمة اللذين يميزان كل ما ننتجه أو نوزعه أو نستهلكه.

يتميز موضوع هذا الكتاب، بتنوعه وشساعة زمانه. ونلمس هذا التنوع أيضا في المصادر والمراجع المتعددة التي يعتمدها الكاتب، وهو الذي يبدأ بنصوص تاريخية وينحاز لبراديغمات العلوم الإنسانية والاجتماعية الأخرى، كالأنثروبولوجيا والإثنولوجيا. يجمع الباحث مادته من كتب النوازل والتراجم، كما ينقب في كتب الفلاحة والطبيخ، إذ لا يستثني الأرشيف وطنيا كان أم أجنبيا. نحن أمام مؤرخ ينفلت من دُوغْما الوثيقة الواحدة وينتصر للبحث فيما تراكم حول المغرب،حيث يبحث في نصوص الحكايات والمرويات والأساطير والأغاني، وينقب أيضا فيما خلفه الأجانب الذين زاروا المغرب وكتبوا عنه. يبدأ الكاتب أحيانا بالوصف الذي تركه الحسن الوزان، وينتهي بشهادات الرحالة الأوربيين الذين زاروا المغرب خلال القرن التاسع عشر. وعندما يفعل ذلك، لا يقبل الأشياء كما تقدم أو تسجل، بل يفحصها ويقارنها بغيرها من المصادر، وأكثر من ذلك، فهو ينتقدها ولا يقبل منها سوى بما كان منها واضحا ومتميزا كما يقول ديكارت في قواعد المنهج.

أما موضوعه، فهو تاريخ الأغذية في المغرب، أو كما يقول عبدالأحد السبتي: “يقترح محمد حبيدة أطروحة حقيقية مفادها أن المعطيات المتوفرة حول أطعمة عامة المغاربة في الماضي، تدعم فكرة وجود نظام غذائي نباتي قبل أن يظهر هذا المفهوم في شكله المتداول خلال القرن العشرين” (ص. 9-10).

ومن حسنات هذا العمل، أنه يجعلنا نتصالح معرفيا مع لغة متأصلة فينا، ومتداولة بطريقة أو بأخرى، ولكننا قد نجهل حياتها وحكايتها، كما يمكن أن نجهل سيرورتها أو تحولاتها.

إذا كان محمد حبيدة يؤكد أنه لا يركز على عوائد علية القوم، بقدرما يهتم بالأغذية الأساسية النباتية التي يستهلكها عامة الناس، في أوقاتهم العادية، فإننا نجده على طول صفحات الكتاب لا يقف عند الحياة اليومية أو العادية لهذه الفئة من الجمهور، بل يقارن حالهم ووضعيتهم بحال ووضعية فئات أخرى وفي أوقات مغايرة.

يكشف النظر فيما كان المغاربة ينتجونه ويوزعونه ويستهلكونه في ارتباط بالأرض، عن طبيعة التوازنات الصعبة بين الإمكانات المتاحة للناس وظروفهم الطبيعية والسياسية. فالاقتصاد السياسي، هنا، هو اقتصاد مرهون بالكفاف والقلة، في القرى والمدن ولدى عامة الناس، أما الفئة الخاصة فهي فئة قليلة ووضعها خاص مقارنة بالفئة الأولى.

يسجل صاحب الكتاب أن المجتمع المغربي قبل الاستعمار مجتمع زراعي. ويستند في ذلك على شهادات ونصوص عديدة، ويؤكد أن خصوبة الأرض يقابلها مجتمع يتسم بالعقم والعجز والخضوع، مجتمع يتشبث الفاعلون فيه بتقنيات بدائية تعيق تقدمهم وإنتاجهم. في مثل هذا المجتمع تغيب الأسمدة ولا يحضر منها سوى الطبيعي. في ظل هذا الوضع يسود نظام ديموغرافي يتأثر بالاقتصاد الزراعي (ذي العلاقة بالأرض وتحولات المناخ). ويخلص إلى أن النتيجة هي غياب التراكم على المستويين التقني والكيفي.  ومن ثمة يتم اجتثاث الأرض باستمرار وتتحول إلى ملكيات مجهرية، وهذا عائق ينضاف لعوائق يحددها الباحث في نمط الاستغلال الزراعي والاضطرابات الاجتماعية التي كانت البلاد مسرحا لها.

 لنقف عند بعض هذه العوائق.

1ـ نمط الاستغلال الزراعي: يقف من خلاله على نظام الخِماسة، وهي مؤسسة عرفية (بالبوادي) تمكن الخماس من الحصول على خمس المحصول. وتجدر الإشارة هنا أن محمد حبيدة، لا يقف عند حدود الوصف، رغم أهميته، بل يتعداه بالوصول إلى خلاصات عامة أقرب إلى قانون مفسر للظاهرة التي يعالجها. لنستمع إليه: “يحيل هذا الواقع إلى معادلة اجتماعية أساسية، هي بنية المجتمع وبنية الاقتصاد. ومعنى ذلك أن العلاقات الاجتماعية القائمة على تبادل الخدمات، في إطار الخِماسة التي كانت خدمة اجتماعية أكثر منها اقتصادية، هي التي كانت تفرض وتيرتها على الاقتصاد، وتعمل على انحباسه في نمط من الكفاف يعيد توزيع الإنتاج الزراعي ضمن خدمات اجتماعية متبادلة” (ص.33).

2ـ الاضطرابات الاجتماعية: لما لها من تأثير على عمليتي الحرث والحصاد.

3ـ الجباية: الضرائب التي يؤديها الفلاح للمخزن في شكل عشور وزكاة. وعند إثقال كاهل الفلاحين، كان هؤلاء يلجؤون إلى التمرد، مما يفضي إلى تدخل الجيش لإخضاعهم. كما أن إثقال كاهل الفلاح بالجبايات ساهم في ضعف الإنتاج الفلاحي. وهنا يفيدنا الباحث بملاحظة مفادها أن الأغنياء في مظهرهم، كانوا لا يختلفون في شيء عن البؤساء، وما هي إلا حيلة يتم اللجوء إليها بغية الإفلات من كثرة المغارم.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي