جمال بدومة يكتب: حاميها حراميها

02 ديسمبر 2020 - 00:30

السبت بعد الظهر. النيران مشتعلة غير بعيد عن بيتي، بين ساحة الجمهورية ولاباستيي. الدائرة 11 من باريس ملعونة.

كل الاحتجاجات تجري هنا، تظاهرات الفرنسيين والأفارقة والأكراد والأرمن والبوليزاريو…. وكل الاعتداءات الإرهابية، من “شارلي إيبدو” إلى “الباتاكلان” مرورا بـ”الهوپير كاشير”. لا أعرف من المنحوس، أنا أم الحي؟ لكنني أحس كأنني مازلت في المغرب، في البيت الذي كنت أسكنه في شارع مولاي سليمان، بين العمالة والبرلمان، حيث الاحتجاجات والهراوات وسيارات الأمن جزء من المشهد. المواجهات ساخنة بين البوليس والمحتجين. عشرات الآلاف خرجوا للتنديد بقانون “الأمن الشامل”، وتقليد الشرطة الفرنسية لتقنيات تدخل “السيمي” و”لمخازنية” و”القياد” في محاولة لمحاكاة شعار المملكة العريق: “اللي قالها المخزن هي اللي تكون”. لكن شتان بين الأصل والنسخة، بون شاسع بين مخزن المملكة ومخزن الجمهورية.

أمام وزير الداخلية الفرنسي، موسى دارمانان، مشوار طويل كي يصل إلى الهدف، لكن مادامت الهراوات لا تفرق بين المواطنين، والشرطة تعمل بمقولة “عطي ليمّاه، يلا مادارش هادي راه داير حاجة أخرى”، فإن موسى على الطريق الصحيح… طريق زعير.

فكرت أن أنضم إلى المحتجين، لكنني تذكرت أن المقاهي مغلقة، وأحجمت عن الخروج، لأنني أحب أن أنهي المشي في المسيرات بجلسة على تيراس مقهى. أشعر أنني متظاهر متقاعد. شاركت في عدد كبير من المسيرات، من أجل فلسطين والعراق ولبنان والمعتقلين والكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وكوبا الأبية… اليوم، لم يعد لدي الحماس الكافي للسير وراء القضايا الخاسرة. هناك شيء ما يمنعني من الخروج. أعتقد أنه الخوف من المخبرين والعملاء، خصوصا أن هناك مندسا خطيرا في التظاهرات: العميل كوفيد 19. يستحسن الابتعاد عن التجمعات في الوقت الراهن، ريثما يتضح اللقاح الصيني من اللقاح الأمريكي من الفيروس.

لحسن الحظ أنه بات بإمكاننا أن نمارس كل شيء عن بعد، في زمن كورونا، بما في ذلك التظاهر. هناك ألف طريقة للمشاركة في المسيرة، دون الخروج من البيت. يكفي أن تفتح التلفزيون على BFM أو CNews وتردد الشعارات مع المحتجين. إذا كنت من هواة العنف، غطِّ وجهك كي لا يعرفك أحد، واقذف رجال الأمن بالحجر. لا بأس إن كسرت التلفزيون. الخسائر لا ينبغي أن تدفعها الدولة دائما. المهم أنك شاركت في التظاهرة!

بعيدا عن الدائرة 11، ما يحدث في فرنسا هذه الأيام يقربها من دول العالم الثالث، ويجعل من الصعب عليها أن تعطي دروسا للآخرين في الديمقراطية وحقوق الإنسان. الصور التي تناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي لأفراد من الشرطة وهم يعتدون بالضرب والشتم على شاب ملون البشرة، اسمه ميشال، داخل الأستوديو الذي يعمل فيه كمنتج موسيقي، وضعت الحكومة في موقف لا تحسد عليه. ذنب الشاب أنه لم يكن يرتدي الكمامة، وحين رأى البوليس هرب إلى الأستوديو كي لا يؤدي ثمن المخالفة، لكنه دفع فاتورة “الأمن الشامل”، من دمه وجسده. لحق به أفراد الشرطة إلى الأستوديو وسيّحوا دمه وعندما تدخل بعض أصدقائه، وصلت تعزيزات أمنية مهولة، وألقوا القبض على ميشال كأنه المسؤول عن كل العمليات الإرهابية التي نفذت على التراب الفرنسي!

لقد أصيب العالم بالجنون. الديمقراطية نظام الحكم الأقل سوء في العصر الحديث. يحسم الخلافات بأقل الأضرار الممكنة، ويضمن تمثيلية الشعب في المؤسسات التي تسيّر البلاد، وتداولا سلميا على السلطة، لكن المنظومة تعيش أوقاتا عصيبة. هناك من يهوون عليها بالمعاول داخل الأنظمة الديمقراطية نفسها. الشعبوية تغلغلت في أعرق الديمقراطيات. لنتأمل ما يقوم به دونالد ترامب في الولايات المتحدة الأمريكية. يحاول جاهدا أن يخرّب الدعامات الأساسية للنظام الديمقراطي: حق المواطن في التصويت والانتقال الهادئ للسلطة. أمنيته أن تتحول أمريكا إلى روسيا أو تركيا، ويصبح مثل بوتين أو أردوغان.

في فرنسا، الهجمات الإرهابية أفقدت الطبقة السياسية رشدها، وبات السباق مفتوحا حول من يمعن أكثر في تمزيق “الإعلان العالمي لحقوق الانسان”، واستمالة الناخبين الساخطين خلال الانتخابات المرتقبة في 2022. المزايدات السياسية بين “الجمهورية إلى الامام” واليمين التقليدي وأقصى اليمين هو ما يجعل الديمقراطية الفرنسية تترنح، ويسمح للاعداء بالتشفي في “الجمهورية”، والسخرية من شعار”الحرية والإخاء والمساواة”…. حين كان أفراد الشرطة يشبعون ميشال ضربا، كان المسكين يصرخ: “نادوا على الشرطة، نادوا على الشرطة!” أبشع شعور يمكن أن يحس به الفرد في دولة يُفترض أنها تحترم القانون أن يعتدي عليك من يفترض فيهم حمايتك. الشرطة هي الجهاز الوحيد الذي يحتكر “العنف المشروع” في الدول الحديثة، وظيفتها استتباب الأمن وتنفيذ القانون وحماية المواطنين. عندما يصبح حاميها حراميها، اقرأ على الديمقراطية السلام!

ولا يسعنا في المغرب إلا أن نفرح لأن المسافة بيننا وبين الديمقراطية الفرنسية أصبحت تتقلص. لو تقدمنا قليلا للحقنا بها. بل إذا استمرت على الطريق الذي تسير فيه، يكفي أن نقف مكاننا كي نصبح في مصافّها. المشكلة أننا مصرون على الاحتفاظ بالفارق.

كلما تدحرجت فرنسا إلى الأسفل، نتقهقر نحن أيضا، كي تبقى المسافة ويظل الاحترام. وتلك قصة أخرى.

 

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي