شهادات صادمة لضحايا التعذيب في «دار بريشة»

09 ديسمبر 2013 - 22:11

المجلس الوطني لحقوق الإنسان نظم جلسة استماع لعدد من ضحايا التعذيب الذين لازالوا على قيد الحياة. 

توصف «دار بريشة» بأنها من أسوأ المعتقلات السرية التي شهدها المغرب بعد حصوله على الاستقلال، وبأنه وصمة عار ستظل تلاحق الحزب الحاكم آنذاك، حزب الاستقلال، الذي مارست قياداته حسب شهادات معتقلين سابقين، أبشع أنواع التعذيب، بل كان بعضهم يأتي ليتفرج على المعذبين ويطالب بإنزال أشد أنواع التعذيب في حقهم.

أحمد بن ضيفة، واحد من هؤلاء المعتقلين قضى 53 يوما داخل هذا المعتقل السري، الرجل لم يكن معاديا للنظام، ولم تكن له ارتباطات برجال الحركة الوطنية، ولم يكن يتاجر في السلاح، جرمه الوحيد أن قريبه كان ضمن لائحة المطلوبين لفائدة الحزب الحاكم.

يقول في شهادة مؤثرة «عثروا على اسمي في ورقة كانت مخبئة في جيب قريبي، اعتقدوا أنني ضمن الخلايا السرية التي تكيد للحزب الحاكم» يقول ضيفة في شهادة عرضت خلال ندوة حول المعتقل السري «دار بريشة» الذي نظمته اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان، مساء الخميس بتطوان.

ويضيف المعتقل السابق «اتصلوا بي وقالوا لي نحن من طرف قريبك»، سذاجة الرجل جعلته يصدق غرباء سيأتون بعد قليل لاختطافه. «أنت سي احمد ؟ يسأله الخاطفون، نعم. يجيب ضيفة، هل تأتي معنا، يسأل الخاطفون مرة أخرى، فيجيب بدون تردد «يلاه أسيدي» حتى دون أن يسأل أين.

«بعد مسافة سير طويلة، وجدت نفسي داخل «جنان بريشة» هكذا كان يطلق على هذا المعتقل السري، أخرجوني من السيارة ورموني في مدخل المعتقل، وانهالوا علي بالضرب، لم أفهم شيئا ولا حتى كان يسمح لي بالسؤال».

هكذا قضى أحمد بن ضريفة 53 يوما تحت وطأة التعذيب والتنكيل، دون حتى أن يعرف لماذا جرى خطفه ونقله إلى المعتقل وما هي تهمته؟ و لماذا هو بالضبط والرجل كان بعيدا كل البعد عن الشأن السياسي والصراع على السلطة في ذلك الوقت.

 

عذاب فوق السلم

لم تختلف شهادة، عبد الكريم غجو، وهو من المعتقلين السابقين، عن شهادة بن ضيفة، فالرجل بدوره ذاق ألوانا من العذاب، داخل هذا المعتقل السري.

 كان الرجل وقد تجاوز سنه ثمانين عاما، يجد صعوبة في إخراج الكلام،  كان في كل لحظة وهو يتجول داخل دار بريشة حيث تم تصوير شهادته هناك، يتذكر مكان عذب فيه، يقف عنده ويبكي، بكى الرجل أكثر مما تحدث.

الكلام الوحيد الذي فهمه الحضور من شهادة الرجل، وهو أنه لما جيء به إلى المعتقل وهو يعذب، كان الجلادون يذوقونه سوء العذاب وهو في السلم، عندما يكون صاعدا أو نازلا، لماذا؟ لم يستطع الرجل الإجابة عن هذا السؤال، فيما باقي المختطفين كانوا يعذبون في أماكن خاصة منها «الكورنة» وتلك قصة أخرى نذكرها فيما بعد.

لم يتمكن غجو من إكمال شهادته، فتأثر الرجل بالذكرى السيئة للمكان، جعله يتوقف عن الحديث، «ماذا سيقول وعن أي عذاب سيتحدث»، يهمس أحدهم في أذن قريبه داخل القاعة، ربما تربطه صلة قرابة بالمعتقل غجو.

كان غجو من المناهضين للحزب الواحد آنذاك، إلى جانب عدد من الرفاق الذين اختاروا التمرد على الوضع الراهن واستفراد الحزب الحاكم بالسلطة، لكن يد الأخيرة كانت طويلة وأكثر مما كان يتصور المعتقلون أنفسهم، وما رأوه من العذاب والجحيم كان خير دليلا على ذلك.

 

كان «يصطاد»  سمكا فاصطادوه

عبد السلام العمري، واحد من أوائل المعتقلين «بدار بريشة»، قصة هذا الرجل بدت غريبة. كان إلى جانب رفيقه يشتري سمكا، في منطقة حجر النحل، قبل أن يباغته أربعة أشخاص وصفهم في شهادته بأنهم غلاظ شداد ويحملون مسدسات في أيديهم.

تفضل معنا يقول أحد المختطفين لعبد السلام، فيجب إلى أين، فكان رد المختطفين مختلفا، وجهت إليه لكمات قوية في الوجه، وصعد حينها مرغما إلى السيارة.

يصف العمري السيارة التي ركب فيها بأنها لا تتسع سوى لثلاثة أشخاص بينما كانوا هم خمسة، واستغرقت المسافة من حجر النحل إلى «دار بريشة» أزيد من خمس ساعات. كان المشهد مرعبا منذ بدايته.

وإذا كان بن ضيفة وغجو عذبا دون أن يعرفا التهم الموجهة إليها، فإن الجلادين بدوا متفهمين إذ كشفوا عن التهمة الموجهة إلى العمري، لكنهم لم يسمحوا له بمعرفة أكثر من ذلك، أما أن يدافع عن نفسه، فذلك كان من باب المستحيلات.

تهمة العمري، «هي المتاجرة في السلاح»، يقول المعتقل السابق إنه رجل ترجمان، ولم يحمل يوما  مسدسا في يده،  فكيف يتحول هكذا فجأة إلى تاجر سلاح.

ذاق الرجل عذابا مختلفا عن العذاب الذي شهده باقي المعتقلين، بل كان أشد وأمر. قال في شهادته:» جيئ بي إلى مكان يدعى الكورنة، هنا يعلق المعتقلون عراة ويتم جلدهم بحبال غليظة، ويصب الملح فوق جلودهم، ليزدادوا ألما، كان المكان عبارة عن كراج، فيه عدد من البراميل، كانت مملوءة بالماء والبول والغائط، عندما ينتهون من الجلد كانت الحصة الثانية هي غطس الرأس في هذه البراميل القذرة» ، يستطرد العمري «تخيلوا كيف يبدو المشهد».

كان العمري مسجونا في غرفة بالطابق الثاني «بدار بريشة»،  مساحة الغرفة لم تكن تتجاوز مترا ونصف المتر، وكانوا سبعة أفراد، كان المكان ضيقا، ومساحته لا تتسع سوى لشخصين، فكيف بسبعة أشخاص !

يتذكر العمري جيدا، كيف أن الخاطفين جاؤوا بثلاثة شيوخ من جيش التحرير وقاموا بإعدامهم، في عرسة المعتقل، أعدموا بالرصاص، وتم دفنهم تحت شجر الكرموص، وهم ما يزالون لحد الآن هناك.

هؤلاء الشيوخ كانوا في نظر قادة الحزب الحاكم «خونة»، وكل من يخالف رأيهم يوصف بهذا النعت، حتى إن أي رأي يتداول داخل اجتماعات هذا الحزب مخالف وغير متفق مع رأي الأغلبية، فإنه إما يحال على المعتقل أو يقتل، ويتم تدبير طريقة قتله فيما بعد من قبل الجلادين.

 

 ذاكرة المكان

«دار بريشة» أو «جنان بريشة» أو «عزبة بريشة»  تحيل إلى سكن لإحدى العائلات التطوانية، إنه مكان يتواجد في ضيعة، جرت فيه وقائع وأفعال فضيعة وغير مسبوقة في التاريخ المغربي، يؤكد معروف الدفالي، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان.

دار بريشة أيضا حسب المؤرخ تحيل على حوادث العنف السياسي وإلى ضحايا ذلك العنف، وأنواع التعذيب التي مورست، هذه الأحداث يقول الدفالي «أصبحت تشكل الهوية التاريخية للمكان».

الضحايا من جهتهم كانوا يصفون هذا المعتقل بأنه معتقل رهيب، وقد سخرت الدار للتعذيب والتقتيل ولوثت عرستها بدم الأبرياء.

 من هم ضحايا «دار بريشة» ؟ يجيب المؤرخ الدفالي على هذا السؤال بالقول «إنهم مجموعة ممن تعرضوا صيف 1956 إلى الاختطاف، إنهم مجموعة أيضا من الذين ساهموا بشكل كبير في تحرير البلاد، وأغلبهم كانوا من حزب الشورى والإستقلال، ويبقى أشهر ضحايا دار بريشة هم «إبراهيم الوزاني وعبد السلام الطود».

كانت التهم التي توجه للمعتقلين، وفق الدفالي، هي الانتماء إلى حزب الشورى، الميول إلى الشيوعية، التعاطف مع محمد بن عبد الكريم الخطابي، حمل السلاح والمتاجرة فيه، معاكسة الوطنيين وخيانة الوطن، الاختلاف مع علال الفاسي.

جلادو معتقلي بريشة كانوا ذاقوا العذاب في سجون الاحتلال لكن بعد الإفراج عنهم قاموا بنفس الممارسات ضد أعضاء حزب الشورى وباقي معتقلي «دار بريشة».

مصطفى الغاشي، أستاذ التاريخ المعاصر بكلية الآداب والعلوم والإنسانية بتطوان، أشار في مداخلته إلى انعدام الحقيقة الكاملة حول ما جرى في «دار بريشة» بسبب عدم وجود أرشيف ومراجع تؤرخ لما جرى.

الغاشي أضاف أن السياق التاريخي كان مفقودا، وأن ما وصل هو شهادات ضحايا مازالوا على قيد الحياة، أما التفاصيل السياسية وما دار في تلك الحقبة بعد استقلال المغرب، فلا يوجد أي شيء منها.

ويعتبر الغاشي أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان لم تقع بعد الاستقلال بل حتى قبل الاستقلال وأشار في هذا الصدد إلى العلامة محمد بن الحسن الحجوي،  الذي وصف بأنه خائن وتمت تصفيته وتمت مصادرة كتبه في تلك الفترة.

 ويؤكد أستاذ التاريخ أن التاريخ العربي يؤرخ لكل ما هو إيجابي، وهذا خطأ كبير برأيه، مضيفا أن الجانب السلبي موجود وينبغي الحديث عنه ونشره والاطلاع عليه لأنه يبقى جزء مهما من الذاكرة الوطنية.

 

الأزمي والطود يتحسران على الماضي

رئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان إدريس اليزمي، الذي حضر هذا اللقاء، قال إنه لما كان يرأس لجنة المحققين بهيئة الإنصاف والمصالحة، سمع لأول مرة بهذا المعتقل «دار بريشة» وقد صدم من هول ما سمع.

اليزمي تحدث عن تجربته في إطار هيئة الإنصاف والمصالحة وقال إن مشكلة كبيرة كانت تواجههم وهي عدم وجود أرشيف يؤرخ لما حدث، قال إنه اعتمد على شهادات ناس دفنوا الضحايا وتلك الحقيقة الوحيدة التي وجدوها وما دون ذلك كان مفقودا وغير معروف.

واعتبر الأزمي أن «دار بريشة» تعتبر ذاكرة المغاربة، ذاكرة المعتقلين السريين، مؤكدا على ضرورة الحفاظ على هذا المكان التاريخي، الذي يؤرخ لحقبة مهمة من تاريخ المغرب الذي يعترف به الجميع.

من جهتها قالت سلمى الطود رئيسة اللجنة الجهوية لحقوق الإنسان بجهة طنجة تطوان، إن «دار بريشة» هي وصمة عار على جبين السلطة آنذاك، وقالت إن الناس كانوا يعتقلون ويعذبون بدون سبب، حتى عندما يتم الإفراج عنهم، يعيشون حياة كئيبة وغير مستقرة.

الطود أوضحت أن هدف اللقاء هو تسليط الضوء على حقبة مهمة من تاريخ المغرب، حيث كانت الاعتقالات السياسية والتصفيات الجسدية، وذلك من أجل أخذ العبر والدروس، من جهته، والنظر إلى المستقبل من جهة أخرى، مستقبل يحفظ كرامة ما تبقى من هؤلاء المعتقلين وجبر ضررهم، في إطار سياسية العدالة الانتقالية.

 

شارك المقال

شارك برأيك
التالي