حراك الريف.. خطة النشطاء لتحدي السلطات لوقت أطول

19 يونيو 2017 - 23:00

الحسيمة – منير أبو المعالي

تجري حاليا حرب مستمرة للإنهاك في الريف، وتحديدا في الحسيمة، حيث تسعى السلطات إلى محاصرة المظاهرات وتفريقها لدفع المحتجين إلى الشعور بالإعياء من الخروج  للتظاهر، فيما لا تلوح في الأفق أي مبادرة للحل.

بالقرب من الباب الرئيسي للسجن المحلي في مدينة الحسيمة، كان خالد الملاحظ، وهو قيادي محلي في حزب النهج الديمقراطي، قد وصل لتوه إلى محل تجاري يبيع مقتنيات بالية، بعدما غادر مظاهرة فرقتها القوات العمومية بعنف ليلة الخميس، في الحي العمالي (Barrio Obrero) يسيدي عابد. كان الغبار يعلو قدميه، وهو يشعر ببعض الوخز في خلقه بسبب استنشاقه للغاز المسيل للدموع الذي أطلقته قوات الشرطة لتفريق المتظاهرين. كان يبدو ممتعضا مما آلت إليه الأوضاع، لكن الشعور بأن الاحتجاجات ستخبو بشكل تدريجي بدأ يملؤه. قال لنا: “ربما سيتعب الناس من النزول إلى الشارع. إن التفريق المستمر للمظاهرات سيدفع أولئك الأشخاص الذين كانوا يعززون أعداد المتظاهرين سابقا، إلى التخلي عن الرغبة في الاحتجاج”.

وتمتد هذه الهواجس إلى الكثير من الأشخاص، لأن الأمور لم تعد واضحة بالنسبة إليهم بخصوص مستقبل حراك الريف بعد حوالي عشرين يوما من توقيف ناصر الزفزافي وغالبية رفاقه الذين كانوا يشكلون قيادة هذا الحراك. لكنهم لا يعرفون أيضا كيف يمكن أن يُستخدم الشارع كوسيلة ضغط على السلطات للإفراج عن المعتقلين. وقد كان أعضاء حزب النهج الديمقراطي، طيلة مرحلة قيادة الزفزافي لحراك الريف، مُبعدين بشكل ما من التأثير على طريقة إدارة المظاهرات، فهو لم يكن يثق كما أعلن عن ذلك مرارا، في الأحزاب السياسية، ومع ذلك، فإن الأشخاص نفسهم الذين عمل قائد الحراك دون كلل، على إبعادهم عن القيادة، سيستمرون في الوقت الحالي في التظاهر لإطلاق سراحه هو ورفاقه.

من يتعب أولا؟

“لا نعرف كم من الوقت يمكن أن تستمر هذه المظاهرات، فالسلطات تحاصر كل شبر في الحسيمة، وتعمد على تمزيق أي تجمع بشري ينوي الاحتجاج”، كما يشير الملاحظ، ثم يردف: “طرف ما سيشعر بالعياء، وفي غالب الأحوال ليست قوات الشرطة من ستتعب”. كان هذا الرجل يتحدث إلينا وهو يحملق في السجن المحلي الذي يبدو مثل بناية عادية وسط هذا الحي الشعبي. “حتى الآن، فإن وجود الشبان في السجن ما زال يدفع الناس إلى التظاهر”. في السجن المحلي، يقبع حوالي 55 شخصا أوقفتهم الشرطة عقب أحداث يوم الجمعة 28 ماي الفائت، وهم يشكل خمس عدد السجناء الموجودين فيه. وأخبرنا عمر المعلم، وهو موظف تعليم، وعضو في لجنة تتبع قضية معتقلي حراك الريف أن هذا السجن قادر على إيواء 240 شخصا، لكن “يمكن أن يوسع طاقته الاستيعابية كي تصل إلى حوالي 350 سجينا”. ثم تابع مقدما ملاحظة: “لقد جرى تنقيل سجناء عاديين إلى سجون أخرى، وأفسحوا المكان أكثر لمعتقلي حراك الريف الذين يحاكمون بالحسيمة”.

ولا تُتلى في مظاهرات الحسيمة أي بيانات أو خطب ختامية تتضمن مطالب محددة، وتركز الشعارات التي يرددها المحتجون على إطلاق سراح المعتقلين. لكن الموقف المتشدد للسلطات إزاء المتظاهرين يدفع بالنشطاء إلى الشك في مقدرتهم المحلية على تحقيق هذا المطلب.

في سيدي عابد، التقينا برجل كان في طريقه للمشاركة في المظاهرة، وكان يحمل هاتفه وهو بصدد كتابة شعار على صفحته بحسابه على فايسبوك. قال لنا إن هذا الشعار كان يرفعه وهو ما زال تلميذا في عقد التسعينيات. لكنه فجأة توقف عن السير، وأخبرنا بأن السلطات “قد قمعت المتظاهرين”، ثم كشف لنا عن شريط فيديو يُبث بشكل حي ويعرض لمشاهد هروب الشبان. “لنتفرق الآن”، كما طلب منا، قبل أن يضيف: “سيمنعوننا من التقدم أكثر إن بقينا بهذه الكثرة”. كان عددنا خمسة أفراد فحسب حينئذ، لكن  قوات الشرطة التي تقيم حواجز على طول شوارع سيدي عابد، لا تسمح ولو لشخصين بالمرور سويا. وفي تلك اللحظة بالضبط، كان شاب يهرول نحو أسفل الحي، وقد توقف ليخبرنا أن الشرطة موجودة على مبعدة 50 مترا، و”تشن توقيفات”، وحينها عاد الجميع أدراجه.

في تلك الليلة، وكما جرت العادة منذ يوم الاثنين، لم يكن سهلا تحديد أين سيتجمع المتظاهرون، وبينما كان يعتقد الكثيرون أن المحتجين سيحافظون على موطئ قدمهم في الأحياء الشمالية التي نجحوا في دفع السلطات إلى التسامح بشكل نسبي مع وجودهم داخلها، فإنهم فجأة قرروا العودة إلى المكان الذي كانوا يتظاهرون فيه منذ توقيف ناصر الزفزافي، أي في الحي العمالي داخل سيدي عابد. وبحسب ما قال لنا متظاهر تحدثنا إليه عبر خاصية المحادثة على فايسبوك ، فإن المتظاهرين علموا بوجود تطويق كبير للأحياء الشمالية من لدن القوات العمومية، فارتأوا تغيير مكان المظاهرة كي يضمنوا لأنفسهم بعض الوقت في الاحتجاج قبل أن تتدارك السلطات هذا الأمر. لكن قوات الشرطة على كل حال، كانت قد طوقت منافذ حي سيدي عابد بالكامل، وقد وصلت تعزيزات بسرعة إلى الحي العمالي، وشرعت في تفريق المحتجين الذين كانوا بالمئات.

“يبدو أن خطة السلطات هي أن تمنع توسع المظاهرات، وإذا أصبح العدد كبيرا، فإن تفريقها سيكون أمرا محسوما، وحتى لو تركت لاحقا متظاهرين يتجمعون في مكان ناء، فإن عددهم يكون غالبا صغيرا”، كما يشرح المعلم. وقد حدث في سيدي عابد أن لاحقت القوات العمومية المتظاهرين في كل شارع حتى لا يتجمعوا في أي مكان آخر. وقد استعملت قنابل الغاز المسيل للدموع لدفع المحتجين بعيدا عن حي سيدي عابد، وقد نجحت هذه الخطة، بحيث إن أكثرية المتظاهرين غادروا الحي، ورغم أن مجموعات أخرى حاولت عدم الاستسلام إلا أن قوات الشرطة صممت على تفريقها، وقد وقعت مواجهات استعمل فيها شبان الحجارة، وبقيت مستمرة حتى الساعة الثانية عشر في الشوارع الخلفية بحي سيدي عابد. “إذا ظهر للسلطات أن عدد المتظاهرين يتقلص تدريجيا، فإنها ستكون قد أثبتت نجاعة خطتها.. إنهم الآن يقيسون هذا الأمر بالضبط، وكلما تبين أن مظاهرة ما زاد عددها، فإنهم يفرقون المظاهرة الموالية”. كما قال المعلم، ثم شرع في الحديث عبر هاتفه قليلا وعاد: “أرغب في الذهاب إلى هناك لإعادة أسرتي إلى المنزل، لكنهم يخبرونني أن المواجهات بالحجارة ما زالت مستمرة”.

وقليلون من يعتقد أن المتظاهرين يمكنهم أن يصمدوا في حرب الإنهاك هذه، ومن الواضح أن معارك الكر والفر التي باتت معتادة في بعض الأحياء، قد قلصت عدد المشاركين في الاحتجاجات، وإن لم تُخفض من مقدار غضب الأهالي على ما يبدو.

كل شيء يتوقف على الوقت

يقدم الناشطون المحليين أرقاما كبيرة عن عدد القوات العمومية في مدينة الحسيمة، وبعضهم يعلن عن أن ما بين 13 ألف و15 ألف من رجال الشرطة والقوات العمومية يوجدون بالحسيمة وحدها، وهذا عدد كبير  ويشكل حوالي ثلث سكان المدينة كلها. لكن ضابط شرطة أخبرنا بأن العدد الحقيقي أقل من ذلك بكثير، فهو بحسبه، لا يصل إلى ثلاثة آلاف عنصر تعمل بالتناوب، وغالبيتها من القوات المساعدة. وما يدفع الناس إلى الاعتقاد بأن عدد القوات كبير للغاية هو الطريقة الاستعراضية التي تتحرك بها عربات الشرطة والقوات المساعدة في الشوارع الرئيسية، وأيضا تلك القوات التي تستعمل لسد المنافذ في حي سيدي عابد على طول كيلومتر بشارع طارق بن زياد. وقد أحصينا عدد القوات التي تُستخدم لاحتواء المظاهرات في حي سيدي عابد، وقد لا يفوق عددها 500 على أبعد تقدير. لكن هذا أيضا يراه بعض الناشطين عددا كبيرا بالمقارنة مع عدد المتظاهرين الذين لا يتجاوز عددهم في كثير من الأحيان ألف شخص. ولا تدفع السلطات بقوات الشرطة المحلية إلى مواجهة المتظاهرين، وحتى عمليات التوقيف والتحقيق ينجزها ضباط قادمون من مناطق أخرى، وهذه طريقة عملية لتجنب أي أعمال عدوانية ضدهم بعد إنهاء الأزمة.

وقد كنا عائدين من حي سيدي عابد، عندما صادفنا مراهقا يخاطب خمسة عناصر من القوات المساعدة مازحا أن عاشت المظاهرات، فرد عليه عنصر قائلا: “غادر المكان كي لا أهشم رأسك”. ومثل هذه الحوادث ينتقدها الناشطون الذين يعتقدون أن وجود هذه القوات لا يفيد في تهدئة النفوس.

بيد أن السلطات كما قال لنا مسؤول، درست الكلفة على نحو جيد، فاحتواء الاحتجاجات في أحياء محددة، بالرغم من استعمال عدد كبير من القوات، ينجح حتى الآن في الحفاظ على استمرار مظاهر الحياة في الحسيمة. وعلى الأقل، فإن المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم الموجودة على الجانب الشرقي من المدينة، وهي العصب الأساسي للاقتصاد المحلي، لا تتضرر من الاحتجاجات المستمرة في الأحياء الخلفية، بيد أن الساحة الكبرى وسط المدينة حيث تعقد المهرجانات عادة، وحيث كان ناصر يجمع المظاهرات ويلقي خطبه، لا تبدو مكتظة بالناس كما كان الأمر عليه في شهر رمضان الفائت، وهي بدورها تُطوقها عربات الشرطة والقوات المساعدة. في مطعم مجاور، كان مزاج صاحبه الذي يعمل لأول مرة في شهر رمضان، متقلبا، فهو لا يتوقف عن الحركة ليقدم وجبات الإفطار، ثم العشاء فالسحور لرجال الشرطة الذين باتوا زبنائه الوحيدين تقريبا، وقد سمحت له السلطات بوضع طاولات على مساحة واسعة من الرصيف كي يقدم هذه الخدمة للقوات العمومية حيث لا يوجد أي مكان آخر في الحسيمة يقدم على الأقل وجبات الإفطار على سواه. قال لنا: “إن هذا الوضع ينبغي أن ينتهي. لا أعرف كيف يمكن فعل ذلك، لكن الحسيمة لا يمكنها أن تستمر في الحياة بهذه الطريقة”.

وإظهار الحسيمة كمدينة تحيى بشكل طبيعي، خطوة يراها مراقبون عنصرا أساسيا في حرب الإنهاك التي تقودها السلطات ضد المتظاهرين. وإذا ما استمرت حملة قمع المظاهرات في الأحياء الخلفية، فربما  كما تخمن السلطات وبعض الناشطين أيضا، سيشعر الغاضبون بالتعب، وقد يفقدوا الأمل في تحقيق تغيير لسلوك السلطات، فيتوقفوا عن التظاهر تماما. وتركز السلطات بشكل أكبر على مدينة الحسيمة، بينما سمحت  ليلة الخميس بتنفيذ مظاهرات في جماعات بني حذيفة وإيمزورن وأربعاء تروكوت.

المهاجرون كورقة ضغط

لكن هنالك جانبا يراهن عليه المتظاهرون، ولا يبدو أن السلطات تغفله كذلك: المهاجرون الريفيون المقيمون في الخارج الذين سيشرعون في التدفق على الحسيمة والبلدات المجاورة مباشرة بعد شهر رمضان. “في الغالب سيشكلون دفعة جديدة للمظاهرات إذا استمرت الأوضاع على ما هي عليه”، كما قال لنا متظاهر تملؤه الحماسة، ثم يضيف: “سنصبح إزاء مظاهرات على الشواطئ، وحينها لا يمكن لقوات الشرطة أن تتعقب المحتجين وسط مياه البحر”. لكن مسألة هؤلاء المهاجرين تطرح بدورها مشكلة جانبية. فالسلطات المكلفة بإجراءات استقبال الجالية المغربية المقيمة بالخارج تجنبت الحديث إلينا بشكل مطلق حول ما تتخذه حتى الآن من تدابير في ميناء الحسيمة، ويعتقد بعض الناس أن نسبة معينة من المهاجرين قد لا تخطط لزيارة الحسيمة هذا العام بسبب الوضع المتدهور، وإذا ما حدث ذلك، فإن المأزق الاقتصادي للمدينة لن يحل في الصيف الذي يعتبر فصلا للرواج. لكن الناشطين يعولون على عودة المهاجرين، وكما قال لنا ناشط، فإن “الشبان الريفيين الذين ينحدرون من أوروبا، ويملكون جنسيات بلدان الإقامة، مندفعون أكثر من الشبان المحليين، وبمقدورهم تحويل شوارع الحسيمة إلى مظاهرات بالسيارات ليلا، كما سيجعلون من الشواطئ نهارا مكانا للاحتجاج غير المنظم.. وستكون السلطات حينها في مواجهة شيء غير مألوف، ولا يمكن قمعه من دون تبعات كبيرة”.

ويخمن عمر المعلم أن السلطات نفسها تفكر في هذا السيناريو باعتباره قد يطيل أمد الأزمة في الحسيمة، لكنه وفقا لتحليله، يرى أن أي اندفاع احتجاجي للمهاجرين يجب أن يكون مبنيا على وجود مظاهرات مستمرة من لدن المحليين، ودونها قد لا يكون هناك محفز للمهاجرين للاحتجاج. “هذه بتلك على ما يبدو لي”، كما قال. وإذا ما استمرت المظاهرات إلى ما بعد رمضان، فإن السلطات سوف تلجأ إلى خيارات جذرية: إما قمع أشد للمتظاهرين في الحسيمة، وإما إقرار الحل الملائم للمطالب الفورية للمتظاهرين أي الإفراج عن المعتقلين. ولذلك يقول المعلم: “ستستمر المقاربة الجارية في التطبيق لما تبقى من شهر رمضان، وستكون هناك من دون شك معالجة مختلفة فيما بعد. لكني لا أعرف كيف سيكون شكلها”.

ومن المثير للانتباه أن الناس في الحسيمة لا تلقي بالا ببعض المبادرات التي تتخذ من العثور على حل للأزمة شعارا لها، فهم لا يثقون كثيرا في أصحابها. ولذلك ليس هناك أي صدى تقريبا في الحسيمة لتلك المناظرة التي عقدها إلياس العماري في طنجة، يوم الجمعة، بصفته رئيسا لجهة الشمال. كما أن المبادرة المدنية التي قادها صلاح الوديع وطرحت نتائجها يوم الخميس، ينظر إليها الكثيرون بتشكك باعتبارها تدور من حول تصورات حزب الأصالة والمعاصرة نفسه، وأيضا لوجود أشخاص من هذا الحزب ضمن فريقها ممن لا يحظون بشعبية في الريف. “لقد فقد أهالي الريف الثقة في كل ما تشتم منه رائحة المؤسسات الرسمية”، كما شدد المعلم، ويشرح: “كنا بصدد بناء ثقة طيلة هذه السنوات، لكنها تحطمت الآن بسبب ما حدث، وسيكون صعبا للغاية إعادة ترميمها”. وقد شارك المعلم في مقابلة مع فريق المبادرة المدنية عندما كانت تنجز مهمتها، لكنه يحس بالندم حاليا على فعل ذلك، لأنه وجد في الجلسة أشخاصا لا يأتمنهم على مطلب.

في ليلة الخميس، كانت شائعة قد انتشرت في الحسيمة حول صدور عفو ملكي على المعتقلين في عيد الفطر، ورغم أن الكثيرين لم يأخذونها على محمل الجد، إلا أن الأهالي هناك تتمسك بأي خيط أمل. خالد الملاحظ قال لنا إنه توجه إلى شاطئ بوسكور حيث يقضي الملك عطلته الصيفية، لكن قوات الدرك منعته من الوصول من على مبعدة حوالي كيلومتر: “ربما سيصل الملك إلى هناك قريبا”. لكنه ليس متفائلا كثيرا: “لا أعرف ما سيشكله صدور عفو من الملك على المعتقلين من تأثير على مستقبل الأزمة.. سيخفف حتما من حدة الأوضاع الحالية، لكن الريف يحتاج إلى عمل مؤسساتي أكبر”.

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي