إشكالية القضاء الواقف

28 أغسطس 2017 - 15:03

سبق أن كتبنا في هذا الركن ما يشبه رسالة موجهة إلى وكلاء الملك ليتحملوا مسؤولياتهم بشأن فتح ملفات الفساد، خاصة تلك المتعلقة بالأمن العام والمال العام. لكن يبدو أنه لا حياة لمن تنادي، فالأوضاع تزداد تأزما، والإحساس بعدم الاكتراث يتعاظم. وبالأمس فقط، عبرت وزارة الداخلية عن تذمرها بعدما بلغها أن جل مجهودات مصالح الأمن في مكافحة الجريمة، بإحدى مدن الجنوب، تذهب سدى لأن وكيل الملك يطلق سراح جل الموقوفين، ما يخلق حالة إحباط لدى رجال الأمن. وصراحة، كان الله في عون أولئك الأمنيين وهم يرون المشبوهين يتجولون أمامهم دون أن يكون بمقدورهم أن يحيلوهم على العدالة. تماماً كتلك الجمعية الشهيرة بالدار البيضاء، التي وضعت شكاية مباشرة لدى وكيل الملك بالدار البيضاء، مرفوقة بالحجج وبتقرير أسود من لدن الفرقة الوطنية للشرطة القضائية، وبتحقيق مثير للصحافة الوطنية حول اختلاس أموال عمومية، ومع ذلك وضعه السيد وكيل الملك في الرفوف منذ ثلاثة أشهر. وها هي الجمعية قد اشتكت النائب العام لدى الوكيل العام للدار البيضاء ولدى وزير العدل، دون أن يبرح الملف مكانه، ولتذهب الفرقة الوطنية للشرطة القضائية والجمعية المذكورة والصحافة والرأي العام إلى الجحيم!

طيب، إذا كانت مؤسسات الدولة وجمعيات مشهورة وصحف كبرى لا تستطيع أن توصل إلى النيابة العامة صوتها، وإن كان معززا بالوثائق والحجج، فما بالك بذلك المواطن البسيط بالقرية، أو ذاك الفلاح المتواضع بالجبل! أي رسالة تبعث النيابة العامة على بعد شهر واحد من «استقلاليتها» عن وزارة العدل، ودون وجود سلطة رقابة؟ وإلى من يمكن أن يشتكي هذا المواطن والهيئات والمؤسسات إذا تقاعست عن مهامها وأدوارها؟ فالقائمون على القضاء الواقف، وهم نواب وكيل الملك ووكلاء الملك، ليسوا ملائكة لا يخطئون، لأنه -ولنستبعد حتى سوء النية لأن ذلك يدخل في نطاق الجرم الأكبر- لا بد من آليات تصحح القرارات، وحتى تقوم بالزجر.

المواطن محتاج إلى الإحساس بالأمان أكثر من أي وقت مضى، وأكبر المؤسسات التي بإمكانها أن تزرع فيه الطمأنينة والسكينة هي العدالة والقضاء. والمغرب، الذي اختار طريق الاقتصاد المفتوح، يعول على الاستثمار لخلق الثروة وخلق دينامية في الاقتصاد. فأي مستثمر يجرؤ على توظيف رأسماله في منظومة عدالتها مهزوزة ومزاجية؟ وما الذي يضمن له بأن القضاء سيمكنه من حقوقه إذا اشتكى ظلما أو احتيالا أو نصبا؟

إن من يتجاهل اختلالات النيابة العامة بالمغرب كمن يغطي الشمس بالغربال، ومادامت هذه الآلية بعيدة عن التقويم، فكل حديث عن الإصلاح يبقى مضيعة للوقت. فستبقى الصحف تعج بملفات الفساد، وسيبقى أصحابها بمنأى عن المساءلة، لأن النيابة العامة بالمغرب، وخلافا لما تصرح به الحكومة، لا تعتبر الصحافة الوطنية مرجعا أو بداية حجة، مع أن القانون يمنحها الحق في التفاعل مع الصحافة، وحتى مساءلتها عن حججها في الملفات المعروضة. أما التجاهل التام فهو احتقار للرأي العام الذي يتابع تلك الملفات بواسطة الصحف أو الإعلام الجديد، وأحيانا صوتا وصورة، وهذا ما يزيد المجتمع احتقانا لا يرغب فيه عاقل. ومادام الحديث عن النيابة العامة، فلا بد أن نذكر أن المجلس الأعلى للحسابات له وكيل للملك خاص به، وتحال عليه جميع الملفات. فهل تعرفون أنه إذا ارتأى عدم تحريك ملف ما، فمصيره الرفوف مهما كانت خطورة الاختلالات التي يحملها التقرير المحال عليه! ويا ليت السيد جطو يقدم للرأي العام عدد الملفات المحالة على وكيل الملك لدى مجلسه، ومقارنتها بعدد الملفات التي تم وضعها بين أيدي القضاء، ولن يفعل، لأنه أدرى بمصيرها!

النيابة العامة «انتزعت» استقلاليتها، وربما إفلاتها من أي آلية مراقبة، لكن أعين الرأي العام ستظل مفتوحة جاحظة تترصد خطواتها لتحصنها من انفلات «الأنا» الذي قد يكون مدمرا.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي