نوستالجيا: حذاء "ميشلان"!

17 أكتوبر 2017 - 15:10

لم يكن مؤلِّف “قراءتي” – الكرّاس الذي درس فيه جيل الثمانينيات – يعرف أن بعض نصوصه تندرج في باب “الخيال العلمي” بالنسبة إلى سكان الأرياف والمدن الصغيرة. أتذكر جيدا درسا عنوانه: “الأضواء الثلاثة”، يصر من خلاله المؤلِّف المجهول أن يعلمنا احترام “قانون السير”، حتى لو كنا في مناطق لا تسير في طرقاتها إلا الحمير والبغال. المشكلة أننا في ذلك العمر المبكر، لم يسبق لنا أن رأينا “السطوپ” في حياتنا، حتى مصابيح البلدية لم تكن متوفرة في مدينتنا الصغيرة، فيكف تكون فيها أضواء ملونة؟

أمضى المعلم أسبوعا وهو يحاول أن يشرح لنا الجدوى من تنظيم السير بواسطة الأضواء الثلاثة، وكيف ينبغي أن نقطع الطريق حين يشتعل الضوء الأخضر ونقف على الرصيف في انتظاره عندما يكون أحمر، دون أن نفهم أي شيء… فيما بعد، عندما سمعنا قصة إحدى المدن الصغيرة مع “السطوب”، وكيف تجمع حشد من السكان جنب عمود “الضوء الأحمر” المشيد حديثا وهم يرددون: “هاهو بغا يشعل، هاهو بغا يطفا، هاهو بين وبين”… ضحكنا ونحن نتخيل أنفسنا بينهم!

لم تكن في شوارع المدينة حركة سير بالمعنى الحقيقي، كي تستوجب تنظيما مروريا بالأضواء أو غيرها. عدد محدود من العربات يكسر هدوء الطرقات المحفرة. غالبية السيارات من نوع رونو 4 و5 و12 وسيمكا والـ2 شوڤو… بالإضافة إلى دراجات من نوع 103 وفلاندريا وسوزوكي وياماها…  تتقاسم الطريق مع عربات تجرها حمير مدبورة، ومع الراجلين. الناس في المدن الصغرى لا يسيرون أبدا على الرصيف، بل وسط الطريق، كأن في أحذيتهم عجلات. الواقع أن بعض الأحذية كانت تتوفر على عجلات حقيقية. من يتذكر “ميشلان”؟ “صندالة” فريدة من نوعها لا يمكن أن تعثر عليها في المحلات التجارية، بل تُصنّع على المقاس عند الإسكافي (Sur mesure). اسمها يحيل على ماركة دواليب السيارات الشهيرة، رغم أنها تصنع، أيضا، من عجلات “گوديير”. “ميشلان” يلبسها الكبار والصغار. في نهاية العام الدراسي، يأخذ الآباء أبناءهم إلى “الخرّاز” كي يأخذ مقاساتهم ويعكف على صناعة الحذاء الذي سيمضون به عطلة الصيف. أشرطة جلدية تثبّت بالمسامير على صفيحة من عجلات السيارة، مع إبزيم أصفر. شريط الجلد الرئيسي يغطي أصابع الرجل عموما، من يريد الخروج عن المألوف يطلب من الإسكافي أن يقص الشريط من الأمام ويترك الأصابع في الهواء الطلق، كما لو أن في قدميه “صندالة” حقيقية، من تلك التي تباع في محلات الأحذية.

في تلك السنوات السريعة، كانت “ميشلان” و”پيما خوينزة” و”بوگا” و”البوط” و”سباط الدستور”… تتقاسم طرقات المدينة مع السيارات. من يمشي على الرصيف يعتبره الآخرون “جبانا” ويستهزئون منه. في المساء تخرج المدينة عن بكرة أبيها إلى الشارع كي تمارس رياضة المشي وسط الطريق. كأن السكان خرجوا في تظاهرة احتجاجية. شباب وكهول، نساء ورجال، يتجولون في ساحة “العلويين”، النسخة المحلية من شارع “شوفوني”. الشباب يدهنون شعورهم بالمراهم ويصبون على أجسامهم كميات محترمة من العطر الرخيص، ومن له حذاء جلدي يلمعه بـ”السيراج”، أما الشابات فيطلين أحمر الشفاه ويضعن الكحول في العيون ويرتدين تنانير ملونة ويمشطن خصلات شعر رقّدت طويلا في الحناء.

الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة اسمه “شارع مولاي إدريس”. ليس الحسن الثاني ولا محمد الخامس أو حتى مولاي يوسف أو الحسن الأول. مولاي إدريس. اسم بليغ، كأن الدولة لم تنتبه للمدينة منذ عهد الأدارسة. بيوت ملفقة وفقر مدقع وظلام دامس يخيم على الأحياء كلما غربت الشمس، وعندما تذهب إلى المدرسة تفرض عليك وزارة التربية الوطنية أن تدرس “الأضواء الثلاثة”. وتريد منك أن تفهم وتجتاز الامتحان. لحسن الحظ أن “قراءتي” كانت تتضمن نصوصا أخرى أليفة وسهلة الاستيعاب، مثل “نجيب عند جده في القرية” و”كان لنا حمار”. حين نصل إليها ينتعش الفصل، يحس الجميع أنه معني بالدرس: “جدي جدي جفل الجحش، هذا الجحش لا يعجبني، أريد دراجة”، “كان لنا حمار، نربطه أمام الدار، باع أبي الحمار، لماذا باع أبي الحمار؟”… الجحوش والحمير والكلاب والبغال كانت أفرادا من العائلة!

شارك المقال

شارك برأيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التالي