هولندا التي «لا» تحب الريف

08 أكتوبر 2018 - 13:18

العلاقات الإنسانية شديدة التعقيد وتستعصي على الفهم، خاصة عندما تكون في إطار صدامي وترتبط بالصراع. وحين يتعلّق الأمر بالعلاقات بين دولتين، فإن الأمر يصبح أكثر صعوبة، لأنه يكثّف تعقيدات كتلتين بشريتين، بمعطيات وخلفيات تاريخية وثقافية ونفسية واجتماعية هائلة.

هذا المعطى ينطبق بشكل جلي على الأزمة التي تمر منها العلاقات المغربية الهولندية، والتي تستعصي على الفهم والتحليل. فالأمر يتعلّق بمملكتين ترتبطان بعلاقات تاريخية قديمة من الصداقة والتعاون، تفصل بينهما بحار وقسم كبير من القارة الأوربية، وحتى في المرحلة الاستعمارية، كان نصيب الهولنديين من الكعكة التي وزّعها الأوربيون بينهم بعيدة في الجزر الإندونيسية، ولم تشترك في «الوزيعة» المغربية.

حتى معطيات الحاضر تقول إن البلدين يرأسان، منذ سنتين على الأقل، المنتدى العالمي لمحاربة الإرهاب. فلماذا هذا الشد والجذب، واستدعاء المغرب سفيره من لاهاي مرة، واستدعاء السفيرة الهولندية في الربط للاحتجاج في أخرى؟

الأحداث الجارية ذكرتني بمخطوط نادر يعود إلى بدايات القرن السابع عشر، يتضمن تفاصيل رحلة سفرية تعرف باسم رحلة «أفوقاي الأندلسي». هذا الأخير كان واحدا من مثقفي زمانه، ينحدر من موريسكيي الأندلس الذين كانوا يعانون رواسب حروب الاسترداد ومحاكم التفتيش التي نصبها الحكام المسيحيون الجدد لشبه الجزيرة الإيبيرية، وهو ما حمله على اللجوء إلى المغرب، ومنه انطلق في رحلة تولى فيها إيصال رسائل السلطان المغربي إلى حكام كل من فرنسا وهولندا في ذلك الزمن، في سياق صراع إقليمي معقد.

خلاصة تلك الرحلة أن كلا من الهولنديين الطامحين حينها إلى الانفصال التام عن المملكة الإسبانية، وحكام المغرب المتاخمين للمملكة الإيبيرية المتعطشة للتوسع، رأوا أن مصالحهم تلتقي في مواجهة إسبانيا. ومن بين ما التقت حوله هذه المصالح، كان تبني قضية من تبقوا من موريسكيين مضطهدين من إسبانيا، والذين كانوا يتخذون وجهات من بينها المغرب الذي يتقاسم معهم الانتماء الإسلامي، وهولندا التي تعتبر، منذ بدايات النهضة الأوربية، واحدة من واحات الحرية والتسامح. العلاقات المغربية الهولندية بنيت بالكامل على أساس تبادل للمصالح، حين ربح المغرب معركة وادي المخازن، وبات عنصر توازن في مضيق جبل طارق بالنسبة إلى الهولنديين المتمردين على الهيمنة الإسبانية.

اليوم، وبعد نحو خمسة قرون، الحقيقة الثابتة هي أنه لا علاقة بين ما جرى في الماضي وما يجري اليوم. فالعلاقات المغربية الهولندية ظلّت منحصرة في حدود تبادل المصالح، خاصة منها التجارية. لكن هذه العلاقات ستعرف منعطفا كبيرا في ستينات وسبعينات القرن الماضي. حينها كانت المناجم الهولندية في حاجة ماسة إلى العمال. وبعد تجريبها بضع عشرات من المغاربة الذين انتقلوا إليها من فرنسا وبلجيكا، قررت هولندا استقدام جلّ حاجياتها من العمال من المغرب، حيث وقعت اتفاقية معه، وفتحت مكاتب لها لتسجيل الراغبين في الهجرة نحوها.

هنا يتوقف البعض ليتساءل حول ما إن كان شق سري من الاتفاق نص على جعل غالبية المهاجرين نحو الديار الهولندية من أبناء منطقة الريف، حيث علاقة مملكة الحسن الثاني بالسكان متوترة. لكن الأكيد هو أن هولندا باتت منذ ذلك الحين تستضيف جالية مغربية كبيرة، تقدر حاليا بأكثر من 300 ألف نسمة، غالبيتها تنحدر من منطقة الريف. وحين نعلم أن الدول تتكوّن نظريا من أرض وشعب وسلطة قائمة، فإن المغرب وهولندا يجدان نفسيهما اليوم يشتركان في قسم غير يسير من الشعب، وهو ما يفسّر الاحتكاكات المتكررة.

فهل يعود التوتر الحالي إلى كون هولندا «تحب الريفيين»، وتتطوع للدفاع عنهم في سياق التوتر الاجتماعي الحالي؟ سيكون الجواب بنعم ضربا من البلادة. لكن خطاب «شيطنة» الدولة الهولندية بدوره سيكون ضربا من العبث، ليس لأنها دولة «طيبة»، بل فقط وبكل بساطة لأنه لا مصلحة لها في استهداف الدولة المغربية.

التفسير الذي تلتقي عنده جل المصادر والتحليلات التي استقيتها في هذا الموضوع، تفيد بأن هولندا تتحرّك اليوم سياسيا ودبلوماسيا لأن جزءا من مواطنيها يتظاهرون ويوقعون العرائض، ويضغطون لحملها على ذلك بوسائل ديمقراطية. المغرب يرى أن هناك تحركات سياسية يقوم بها نشطاء ضده، بعضهم لا يخفي نزعته الانفصالية، وآخرون يعتنقون الفكرة الجمهورية. فالرباط حين تتحرك وتضغط للجم هؤلاء، محقة في الدفاع عن سيادتها ودفع خطر محتمل قد يهددها. وهولندا حين تنقل مطالب مواطنيها إلى البرلمان والحكومة والدبلوماسية، محقة لأنها تنضبط لقواها الديمقراطية.

المشكلة الحقيقية بين المغرب وهولندا اليوم لا تكمن في أن أحدهما مخطئ في حق الآخر، بل في أنهما لا يتحدثان اللغة نفسها. الحل لن يكون بحمل هولندا على إسكات مواطنيها أو تجاهلهم. ولا يمكن أن نتخيّل أن هولندا سوف تقدم على اعتقال المئات من الشبان لكي يكفوا عن التظاهر والتحرك ضد السلطات المغربية. إن الحل الوحيد هو أن يصبح الريفيون، كما السوسيون والصحراويون، يمارسون حرياتهم ويطالبون بحقوقهم بأدوات الديمقراطية، ويجدون من ينصت ويستجيب لهم. الحل هو فتح الباب هنا لتأسيس الديمقراطية نفسها التي توجد هناك، والتي جعلت «أفيقاي» يقول قبل قرون في انبهار، إن الهولنديين «لا يبغضون المسلمين لأنهم (أي المسلمين) سيف الله في أرضه على عبّاد الأصنام».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي