التعليم.. جبهة مُلتهبة في معركة الهوية

16 سبتمبر 2018 - 23:05

في دراسة هي الأكبر من نوعها في مجال قياس مستوى التماسك الاجتماعي بالمغرب، أنجزها المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، تبيّن أن المجتمع المغربي قائم على بنيات تقليدية من حيث العلاقات والتماسك والثقة، لكن هذه البنيات التقليدية آخذة في التآكل والضعف دون أن تعوّضها بنيات عصرية قادرة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي وضمان قنوات الوساطة وتصريف التوتّرات.

هذه الوثيقة العلمية المرجعية تطلّب إنجازها أربع سنوات من العمل، بين 2009 و2012، ومشاركة 120 متدخّلا، نصفهم أساتذة جامعيون والنصف الآخر باحثون يحضّرون الدكتوراه، تطلّبت إنجاز 24 تقريرا موضوعاتيا وأكثر من 40 ندوة علمية، تخلّلها إنجاز بحث وطني حول الرابط الاجتماعي، امتدّ لفترة 18 شهرا وشمل أكثر من 5000 شخص أجابوا عن استمارات تتضمّن 345 سؤالا. الدراسة كشفت كيف أن كلا من المدرسة والجيش يحظيان بنسبة مرتفعة من الثقة، في مقابل ترتيب كل من الحكومة والبرلمان والأحزاب في ذيل الترتيب. ولاحظت الدراسة أن مستوى الثقة ضعيف عموما في المؤسسات، خاصة في المجال الحضري، باستثناء المؤسستين التعليمية والعسكرية.

لكن، وفي الوقت الذي يستمر فيه الجيش منيعا ضد أي تناقضات هوياتية، تحوّلت المدرسة العمومية على وجه الخصوص، والحقل التعليمي عموما، إلى ساحة رئيسة للحروب الإيديولوجية والسياسية بشكل أكثر وضوحا مما كان عليه في العقود الماضية. حروب عمودية، بين الدولة وخصومها، وأخرى أفقية، بين الفرقاء السياسيين، أفرغت العملية التعليمية من وظيفتها الأولى المتمثلة في تربية الأجيال المقبلة، إلى مجرّد أداة لمدّ النفوذ وحماية المصالح الفئوية.

الدين والتاريخ

في لقاء احتضنه مقر أكاديمية المملكة بالرباط، كشف وزير التربية الوطنية السابق، رشيد بلمختار، أن التغيير الذي تستعد له المدرسة المغربية سيكون شاملا ليهمّ المقررات الخاصة بتدريس التاريخ، من نفس زاوية إصلاح مقررات التربية الدينية، أي محاربة التطرّف وثقافة العنف عند الأطفال. الخبير في السوسيولوجيا والحركات الإسلامية، محمد الطوزي، قدّم بدوره في ذلك اللقاء محاضرة علمية، قال فيها إن تطوير العلوم في المدرسة بدون تاريخ وفلسفة « يؤدي إلى إنتاج تقنيين مستعدين للبربرية أكثر من الحضارة… هناك توازنات يجب الحفاظ عليها، ولا تقنية بدون أخلاقيات ». فكرة ربط التعليم بروح فكرية وفلسفية تردّدت على أكثر من لسان خلال هذه الندوة الدولية، بعدما شدّد الطوزي على أن الفصل بين التقنية والفلسفة وتاريخ الثقافة يغذي التطرف، « والمثال هو السلفية، فهي عبارة عن تعلق بمعنى واحد ورفض تعدد فهم النص المؤسس وتطبيقه حرفيا ووضعه فوق التاريخ ».

الطوزي، وإلى جانب قراءته التي أعطت لمفهوم الوقاية من التطرف عبر المدرسة أبعادا فلسفية ودينية وتاريخية، قدّم بعض المعطيات التي قال إن دراسات سوسيولوجية كشفتها، حيث أوضح أن 80% من المغاربة يعتقدون أن هناك حقيقة واحدة، حسب دراسة أجرتها منظمة « آنليند » المتوسّطية وشارك الطوزي في إنجازها. الدراسة نفسها أوضحت أن 60% فقط، من المصريين يعتقدون بوجود حقيقة واحدة، مقابل 10% فقط عند السويديين. وأوضح الطوزي أن هذا الاعتقاد الواسع لدى المغاربة بالحقيقة الواحدة، هو أساس رفض التعددية والنسبية. الدراسة التي شملت 26 ألف شخص من 26 دولة متوسطية، عرفت طرح سؤال حول « ما هي القيم التي ترغبون في نقلها إلى أطفالكم عبر المدرسة؟ »، فكان جواب الألف مغربي هو قيمة الاستقلال في الرتبة الأولى بنسبة 52%، تليها قيمة احترام الثقافات الأخرى بنسبة 42%، فالقيم الدينية ثالثة بنسبة 30%.

النسبة الأخيرة قال الطوزي إنها انخفضت في دراسة 2012 مقارنة بسابقتها، التي جرت في 2009، حيث كان 60% من المغاربة يعتبرون أن القيم الدينية هي التي يجب نقلها للأطفال عبر المدرسة. الطوزي نبّه إلى أن هذا المعطى الأخير لا يعني بالضرورة أن المغاربة قد تغيروا وأن الأمر يتطلب دراسات أخرى، « فالمفارقة هي أن هذا التحول ليس بالضرورة إيجابيا، بل يمكن أن يكون دون روحانيات ويؤدي، بالتالي، إلى كوارث ». روحانية شدّد الطوزي على بعدها الفكري والفلسفي، والذي قال إنه يجب أن يرافق جميع التكوينات العلمية والتقنية.

مجلس عزيمان في الجبهة

المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، رسم بدوره في إحدى الدورات الأخيرة لجمعيته العامة، صورة قاتمة عن وضعية العلاقات والمنظومة القيمية داخل المؤسسات التعليمية، داعيا إلى مراجعة شاملة للمنظومة القيمية في المجال التربوي. المجلس كشف أن الهوة تزداد اتساعا بين الخطاب السائد رسميا حول القيم والحقوق والواجبات، وبين الممارسة الفعلية، « يشهد على ذلك استفحال السلوكيات المخلة بالقيم داخل المدرسة وفي محيطها، من قبيل ظواهر العنف بمختلف أنواعه (الفيزيائي والنفسي، واللفظي، والغش، والاعتداء، والتهديد، والتعصب، والتمييز بين الجنسين، والانحراف، والتحرش، وعدم احترام الأدوار، والمساس بنبل الفضاء المدرسي والجامعي، وتراجع الالتزام بالأنظمة الداخلية للمؤسسة التعليمية، والإضرار بالبيئة وبالمِلك العام »، يقول مشروع التقرير.

ذروة الصراع الإيديولوجي والهوياتي حول المدرسة، كانت جمل قصيرة مما ألقاه الملك محمد السادس في المجلس الوزاري الذي انعقد ذات 6 فبراير من العام الماضي، حسمه من خلال أوامر وجهت إلى وزارتي التربية الوطنية والأوقاف والشؤون الاسلامية، بمراجعة مناهج وبرامج مقررات تدريس التربية الدينية، إيذانا بانطلاق طبول الحرب السياسية والإعلامية بين معسكري « الحداثيين » و »المحافظين »، حيث سارع الأولون إلى تفسير المبادرة الملكية بالانتصار لمطالبهم الرامية إلى تقليص حضور المادة الدينية في المناهج الدراسية، فيما خرجت أصوات من الإسلاميين تتحدّث بنبرة تصعيدية، وأخرى فضّلت تكتيك الإشادة بالمبادرة الملكية ومنع خصومهم من الاستفراد بالمظلة الملكية لمعركتهم الإيديولوجية.

التوجيهات الملكية قضت بتغيير كل المناهج، سواء في المدرسة العمومية أو التعليم الخاص، أو في مؤسسات التعليم العتيق، « في اتجاه إعطاء أهمية أكبر للتربية على القيم الإسلامية السمحة، وفي صلبها المذهب السني المالكي الداعية إلى الوسطية والاعتدال، وإلى التسامح والتعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية ». ووجّه الملك الوزارتين إلى بناء هذه البرامج والمناهج التعليمية « على القيم الأصيلة للشعب المغربي، وعلى عاداته وتقاليده العريقة، القائمة على التشبث بمقومات الهوية الوطنية الموحدة، الغنية بتعدد مكوناتها، وعلى التفاعل الإيجابي والانفتاح على مجتمع المعرفة وعلى مستجدات العصر ».

المبادرة الملكية جاءت في سياق حضور ملف التعليم بقوة في الأجندة الرسمية، بشكل يكرّس التوجه الرسمي للدولة في العامين الأخيرين، والقاضي بسحب هذا الملف من جدول أعمال المجلس الحكومي وتدبيره مباشرة من طرف أعلى سلطة في البلاد، بوصفه شأنا استراتيجيا يسمو على البرامج الانتخابية والولايات الحكومية. الوزير التكنوقراطي السابق، رشيد بلمختار، قدّم في ذلك المجلس الوزاري عرضا حول مخططاته في هذا القطاع، تلاه تعليق ملكي تطرّق بشكل مباشر إلى الصراع الذي دار مؤخرا بينه وبين رئيس الحكومة السابق عبدالإله بنكيران، حول مذكرة وزارية أدخلت اللغة الفرنسية بقوة في المسالك العلمية للتعليم الثانوي، وهو ما أثار حفيظة بنكيران وجعله يهاجم بلمختار من منصة البرلمان. هذا الصراع الهوياتي والإيديولوجي، هو الذي يطلّ برأسه في كل مرة في لبوس جديد، حيث ينتقل من مادة التربية الإسلامية إلى مادة الفلسفة، مرورا باللغات والدارجة.

تماس الدين والمدرسة

إذا كان رئيس المجلس الأعلى للتعليم، المستشار الملكي، قد أعلن نيته مراجعة التعليم الديني في المغرب، وشكّل لهذا الغرض لجنة مستقلة، فإن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تواصل موازاة مع الإجراءات والخطوات الرامية إلى هيكلة الحقل الديني، توسيع وتقوية التعليم العتيق الذي يتشكّل، أساسا، من الكتاتيب القرآنية ومدارس التعليم العتيق ومراكز تحفيظ القرآن التابعة للمجالس العلمية المحلية.

قرابة نصف مليون طفل وشاب مغربي يتابعون دراساتهم داخل هذه المؤسسات العتيقة، القسم الأكبر منهم 376 ألف متمدرسون في الكتاتيب القرآنية، إلى جانب 90 ألف يقومون بحفظ القرآن داخل مراكز متخصصة تابعة للمجالس العلمية المحلية، و21 ألف تلميذ وتلميذة مصنّفين ضمن أحد الأطوار الدراسية للتعليم العتيق، والذي ينتهي بالحصول على شهادة الباكالوريا للتعليم العتيق.

المعطيات الإحصائية المتوفرة تقول إن الكتاتيب القرآنية مؤسسات شبه خاصة بالعالم القروي، حيث تتوزع نسبة تفوق 84% من مجموع الكتاتيب البالغة 13 ألفا و5600 كتّاب، بين قرى ومداشر المملكة. فيما تتخذ مؤسسات مراكز تحفيظ القرآن التابعة للمجالس العلمية المحلية صبغة حضرية، حيث يوجد 74%من هذه المؤسسات البالغ عددها 1707 مراكز، في المجال الحضري. أما مدارس التعليم العتيق، التي يحتفظ بها المغرب موازاة مع النظام التعليمي العصري، فيبلغ عددها قرابة 300 مدرسة، تتوزّع مناصفة بين المدن والقرى. ويبلغ عدد تلاميذ هذا النظام التعليمي العتيق القائم على العلوم الدينية والقرآن، 21 ألفا و585 تلميذ وتلميذة، أكثر من 300 منهم يتابعون دراساتهم العليا لما بعد الباكالوريا في 6 جوامع ومعاهد متخصصة تمنحهم في النهاية شهادة العالمية.

أحد التقارير الحديثة للمجلس الوطني لحقوق الإنسان، خصّص لتشخيص المنظومة التعليمية للمملكة، واقتراح الحلول التي يعتبرها كفيلة بتغيير الوضع الحالي. وأهم نقطة سوداء في نظر المجلس الوطني لحقوق الإنسان، تهم التعليم الأولي، الذي قال إنه « مشتت » ويعاني من تعدد المتدخلين وضعف التنسيق في ما بينهم، « بالإضافة إلى اعتماد ممارسات تربوية متناقضة لا تنصهر ضمن بارديغمات تعليمية مشتركة، حيث تتوزع بين أساليب التدريس التقليدية (لمسيد أو الكتّاب) والطرق البيداغوجية العصرية التي تعتمدها بعض المدارس الحضرية الكبرى، والموجهة، أساسا، للطبقات المتوسطة والميسورة ». تباين بين تعليم الفقراء وتعليم الأغنياء قال المجلس إنه ينعكس على أساليب التدريس والمحتوى البيداغوجي واللغة المستعملة في التواصل والتعليم. الطاقة الاستيعابية الإجمالية للتعليم الأولي لا تتعدى، حسب التقرير، 700 ألف طفل، ما يجعله بعيدا عن تحقيق هدف تعميم التعليم الأولي الذي نص عليه الميثاق الوطني للتربية والتعليم.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي