في فيلا صغيرة بأحد الأحياء المتوسطة في العاصمة تونس، استقبلنا زعيم الإسلاميين التونسيين.. الرجل الذي تحول من لاجئ سياسي في بريطانيا لمدة 20 سنة إلى شريك أساسي في حكم البلاد، مهد الربيع العربي. رأس أبيض، وصوت بالكاد يسمع، وابتسامة لا تفارق فمه، يستعملها للتواصل مع محاوريه، ولأخذ وقت للتفكير قبل الكلام. كنت رفقة أصدقاء في زيارة لبلاد الزيتون الشهر الماضي لحضور ندوة علمية حول الانتخابات المغربية، فانتهزنا الفرصة لنزور راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة وشريك الباجي قايد السبسي في الحكم، لنعرف من أهل الدار أحوال الثورة التونسية وظروفها الانتقالية الصعبة… سألته أولا عن الأسباب الكامنة وراء الهشاشة الأمنية التي جعلت الإرهاب يضرب أكثر من مرة دولة كانت تلقب بالدولة البوليسية في عهد بنعلي، فماذا حدث حتى تراخت قبضة الأمن على البلاد؟ فرد قائلا: «الأجهزة الأمنية في السابق كانت تشتغل بأسلوب واحد وهو العصا، وبطريقة بدائية لا اعتبار فيها لحقوق الإنسان ودولة القانون وضمانات المحاكمة العادلة. الآن أصبحت الأمور معقدة جدا، الجمعيات الحقوقية والصحافة تنتقد عمل الأجهزة الأمنية، وتطالبها بالاحترافية ومراعاة الحقوق الفردية والجماعية، وهذا شيء جديد على الأجهزة الأمنية، ويحتاج إلى خبرات أخرى ووسائل أخرى غير الوسائل القديمة، لهذا وقع ارتباك في المؤسسة، ونحن ندفع ثمنه، علاوة على الظروف الإقليمية الصعبة والحدود الطويلة مع ليبيا التي لم تستقر بعد».
السؤال الثاني للغنوشي كان حول أسباب مشاركة حزب النهضة في حكومة نداء تونس، الحزب الذي جاء إلى السلطة خوفا من قيم الثورة التونسية، فرد: «شاركنا مشاركة رمزية في الحكومة حتى لا نسهل عملية عزلنا، وحتى نحبط مخطط الجناح اليساري في نداء تونس، الذي كان ولايزال يعادينا. لقد انسحبنا من الحكم قبل الانتخابات الأخيرة من أجل تسهيل التوافق بين التونسيين بعد الاغتيالات السياسية التي كان هدفها ضرب الاستقرار، وقلنا إن حزب النهضة سيخسر الحكم لكن تونس ستربح الديمقراطية. كان خيارنا واضحا، وأنا تحملت مسؤولية قرار الانسحاب من الحكومة حتى دون الرجوع إلى هياكل الحركة، وقلت لهم: ‘‘إذا كُنتُم لا توافقون على هذا القرار فأنا أستقيل من قيادة النهضة’’». لتوضيح الصورة أكثر قال الغنوشي: «لا يمكن أن تحكم شعبا تعاديك نخبه. لا بد للذي يحكم من نصيب في النخب الثقافية والفنية والاقتصادية والإدارية. الثورة التونسية لم تحدث انقلابا في ميزان القوى، أحدثت خللا نعم، لكن ليس انقلابا يسمح لصندوق الاقتراع بأن يقرر لوحده من يحكم.. هذا مسار طويل وعمل أجيال، والمطلوب الآن هو توسيع المشاركة السياسية، وهدم جدار الخوف في نفوس الشعب».
كان لا بد في جلسة من ساعة ونصف أن نعرج على علاقة المغرب بتونس، وعن الجار العنيد الموجود بينهما (الجزائر)، وهنا وجدنا الغنوشي متابعا جيدا للأحداث في المغرب، ومن المعجبين برئيس الحكومة، عبد الإله بنكيران، وسياساته وليونته. جوابا عن سؤال حول ضغوط سياسية كبيرة لبوتفليقة على تونس لمنعها من الاقتراب من المغرب أكثر، قال الغنوشي بدبلوماسية ظاهرة: «أول درس يتعلمه الإنسان في السياسة هو أن يضع الخريطة أمامه قبل أي حديث في العلاقات بين الدول، وأحكام الجغرافيا تقول إن تونس بلد صغير واقع بين الجزائر وليبيا، وإن تونس لا تمتلك أن تحفر أنفاقا تحت الأرض للوصول إلى المغرب. نحن نناضل من أجل المغرب الكبير، ومن أجل تخفيض كلفة اللامغرب عربي الباهظة على الأقل»، ثم باح بأسرار عن علاقته ببوتفليقة، الذي زاره أربع مرات منذ الثورة التونسية، لا أملك نقلها هنا مراعاة لأمانة المجالس.
عن بنكيران قال الغنوشي: «إنني معجب بذكائه وواقعيته والكاريزما التي حققها، وهو مكسب للمغرب وللحركة الإسلامية التي كانت تجد صعوبة كبيرة في مخاطبة الناس، وكان خطابها يقتصر على المتدينين فقط دون بقية المواطنين. أرى الآن بنكيران يتحدث مع الشعب باللغة التي يفهمها، ويصارحه بالمشاكل، ويطور تجربة في الحكم سيستفيد منها آخرون في المغرب وخارج المغرب. التدرج في الإصلاحات، والبحث عن التوافقات الصعبة، واتخاذ القرارات المؤلمة، وإقناع الناس بها في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، مسألة ليست هينة بتاتا، ونحن جربنا هذا الأمر ولم نوفق فيه لاعتبارات عديدة، ولهذا قلنا إنه من الخطأ أن نساهم في السلطة بأكبر مما يقتضيه ميزان القوى»، ثم أضاف: «أعرف أن الأخ بنكيران يتعرض لحملات إعلامية شرسة، وأعرف أن الإصلاحات تتقدم ثم تتراجع، وأن ما يحدث في الإقليم المضطرب يؤثر عليكم، لكن استغلوا وجود نظام ملكي له جذور يوفر أرضية للإجماع، ويمنع التطرف هنا وهناك. لقد سبق لي أن قلت في أمريكا إن النموذج المغربي جدير بالاتباع في العالم العربي، لكن لا تخطئوا قراءة الترمومتر.. انتبهوا إلى المنحنى العام في بلادكم. هل المغرب بالصعود والنزول يتقدم مع هذه التجربة أم يتراجع إلى الوراء؟ الظرف صعب جدا، وإذا حُققت إنجازات صغيرة فهي بمقياس المرحلة أمور كبيرة. جل النخب القديمة غير ديمقراطية، وهي مستعدة لأن تهدم البيت على أصحابه إذا اقترب أحد من مصالحها وامتيازاتها».
خرجنا من منزل الشيخ راشد وكل واحد منا يعبر بطريقته عن إعجابه بواقعية الرجل، ونظرته العميقة إلى السياسة في بلده، وقيمة الدروس التي استخلصها من سنوات طويلة في المعارضة و سنوات قليلة في الحكم، وربما إليه يرجع الفضل، مع القايد الشيخ السبسي، في أن تونس مازالت واقفة رغم ما تعرضت له من هزات وأزمات ومؤامرات.