-->

لماذا يخفق كل ما هو رسمي..؟

17 مايو 2017 - 15:05

من واقع التغطيات الصحافية التي أنجزها، يبدو لي أحيانا أن مفهوم النشاط الرسمي، أو ما هو رسمي، تمدّد واتسع بشكل غير مسبوق، أو قل تفشى في الأحداث والهيآت طولا وعرضا، مخترقا جدران كثيرة، من المجتمع المدني إلى مؤسسات البحث ومراكز الدراسات مرورا باللقاءات الثقافية والندوات العلمية، وصولا إلى المهرجانات والإعلام الخاص والفن والجامعات، كاتما أنفاس وأصوات الاختلاف والجدال والنقاش في كل هذه المجالات أو أقلّها محوّلا أصحابها إلى مجرد نشاز..

دعوني أقرب لكم الصورة، لنتخيل لقاءً تعقده جمعية ما أو مركز دراسات حول قضية أو حدث معين، يُفترض مبدئيا أنه نشاط غير رسمي، بمعنى أن الجهة التي تنظمه لا تمثل الدولة ولا تنوب عنها في القول، وبذلك فهي مبدئيا تتمتع بحرية في مقاربة الموضوع. ما الذي يحصل؟ تختار هذه الجمعية أن تتماثل مع المقاربة الرسمية للموضوع الذي تتواصل حوله حد التماهي شكلا ومضمونا.

مضمونا، تجد الخطابات الشفوية والأوراق المكتوبة مليئة بالاقتباسات من الخطب الملكية، بعدها تجد ما يشبه السرقة الأدبية من الخطط والبرامج الحكومية التي وضعت في المجال الذي يتناوله اللقاء، بعدها توصيات اللقاءات التشاورية أو الدراسات التي أنجزها هذا القطاع الحكومي أو ذاك في هذا المجال، ثم في الأخير دعوة إلى « تفعيل » هذه التوصيات الواردة مسبقا في المتن الرسمي، والعجيب أنه رغم ما يقع من استضافة أحيانا لباحثين وخبراء في هذه اللقاءات فكأن هناك اتفاقا ضمنيا بين هؤلاء الخبراء بدورهم على الإشادة بالطرح الرسمي في المجال الذين يُستدعون للحديث فيه. الكل يعزف اللحن ذاته. الأمر يشبه أغنية شهيرة يتنافس المعجبون بها في عزف موسيقاها بالآلات التي يتقنونها، واحد بالكمان، وثان بالعود، وثالث بالبيانو، ورابع، أكثر انخراطا في الحداثة!، بالموسيقي الإلكترونية، وخامس، تقليدي أكثر، بالطبل والمزمار..

أما شكلا، فيتعلق الأمر باستنساخ بروتوكول اللقاءات الرسمية، آيات من الذكر الحكيم، يليها النشيد الوطني، تليها مداخلة من يمثل أعلى سلطة في هيكلة الجهة المنظمة، ثم خطاب افتتاحي يستعير بوفاء وإجلال لغة الخشب من الخطابات الرسمية، تليه مداخلات طويلة وكئيبة ولا تقل وفاء للغة الفلين، لما لا يقل عن ستة أو سبعة متدخلين، لا رابط بينهم وبين الموضوع غير الصدف السعيدة..

لماذا يقع كل هذا؟ لسببين: أولا، لأن الدولة تشجع هذه العادات غير الصحية لأنها لا تطيق سماع الآراء المختلفة، التي تنتقد وتفكر بحرية وتطرح بدائل وتفسح مسارات جديدة في مقاربة القضايا، خاصة الآراء التي تربط بين تعثر مشاريع ونماذج يعتمدها النظام في الاقتصاد والإدارة والاستثمار والفن والنهوض بالإعلام والتعليم وغيرها وبين محددات وأطر أشمل وأكبر. هكذا قد تربط هذه الآراء الخارجة عن الإجماع، مثلا، بين أعطاب الاقتصاد وهيمنة لوبيات ريعية أو بين رداءة الإعلام العمومي واستمرار توظيفه من قبل النظام. وتكون الحلول التي تقترحها قاسية على النظام لأنها قد تتطلب إصدار قوانين تحد من تغول اللوبيات وحماية المنافسة، أو تخرج الإعلام من يد الدولة. ثانيا: لأن الهيآت الفنية والبحثية والفكرية التي تتبنى مقولات الخطاب الرسمي، لا تفعل ذلك اقتناعا بنجاعة هذا الخطاب، وإنما لأن الدفاع عن المتن الرسمي مجز وسهل، ولا يتطلب جهدا فكريا، يكفي أن تنظم حفلات وسهرات تحتفي به..

وهذه العلاقة التي يقع ضمنها هذا الاختراق المخيف للتوجه الرسمي لعدة هيآت وأشخاص وتقارير وتظاهرات، هي أكبر أسباب إخفاق كل ما هو رسمي وعجزه المزمن عن تقديم أجوبة ناجعة لأعطاب البلاد. لا يمكن أن تكون مصدر العطب ومفتاح الحل. ألا ترى أن الشيء الوحيد الذي ينجح فيه المتن الرسمي هو حصر ومراكمة الخيبات؟ كل خمس سنوات يُعلن عن فشل إصلاح أو إفلاس صندوق. ساعتها ينتظر المهلّلون إعلان إصلاح جديد لينظموا موائد حوله..

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

فوزي الهردوز منذ 6 سنوات

لأن النظام همه الوحيد هو التوريث،نفس النظام أسد على شعبه ودجاجة امام الغرب،ما يطبق عليه من طرف الغرب يطبقه على شعبه العزيز،الغرب يخيره :ان اردت الاستمرارية والتوريث فما عليك الا بالركوع والسجود لنا،ونفس النظام ينهج نفس السياسة على خدامه:الريع مقابل السجود والركوع!!!!

التالي