-->

فسحة رمضان على "أخبار اليوم".. الكوليرا تعود إلى المغرب في 1895-1896

19 مايو 2020 - 20:00

في ظل جائحة كوفيد ــ 19، اختارت «أخبار اليوم»، أن تنشر سلسلة من الحلقات من كتاب مرجعي بعنوان: «تاريخ الأوبئة والمجاعات بالمغرب في القرنين 18 و19»، لمؤلفه المؤرخ الراحل محمد الأمين البزاز، الذي اشتغل أستاذا بكلية الأداب والعلوم الإنسانية بالرباط. ويعد الكتاب في الأصل أطروحة دكتوراه، أشرف عليها المؤرخ جرمان عياش أشهرا قبل رحيله سنة 1990.

ضرب وباء الكوليرا المغرب مرة أخرى سنتي 1895 و1896، في إطار الموجة العالمية الخامسة لهذا الوباء. تلك الموجة التي انطلقت من مكة سنة 1881، واكتسحت عددا من البلدان، ولم تنقطع إلا عام 1896. والملاحظ أن المغرب لم يصب إلا مع نهاية هذه الموجة، وهذا راجع إلى التدابير الصحية الصارمة التي اتخذها المجلس الصحي ضد السفن القادمة من الموانئ الموبوءة.

في 12 غشت 1895، وصلت إلى ميناء طنجة السفينة الفرنسية « موريس رونيو »، مزودة بشهادة صحية جيدة، وعلى ومتنها 750 حاجا مغربيا قدموا من الديار المقدسة. ووفق تقرير للمجلس الصحي، تمكنت السفينة من إنزال ركابها بدون حجر صحي، بعد خضوعها لفحص سريع، وبعد تأكيد الطبيب الفرنسي « آلار » الذي رافق رحلتها بأن الحجاج يتمتعون بصحة جيدة. حسب تقرير الطبيب كانت السفينة قد غادرت ميناء ينبع محملة بـ1698 حاجا. وفي المحجر الصحي في الطور الواقع في سيناء أقام ركابها 15 يوما، خضعوا خلالها للإجراءات الصحية « ولم تسجل أي حالة كوليرا بين حجاجنا أو حجاج المخيمات الأخرى ». وفي السويس، خضعت السفينة لفحص صحي أجرته اللجنة الصحية الدولية وأذنت لها « بعد مراقبة تبعث على الارتياح »، بعبور قناة السويس. يضيف التقرير أن السفينة غادرت في ظروف عادية دون أن تتصل إلا بمحجر بيروت، حيث أنزلت 125 حاجا، وبطرابلس 410 من الحجاج، وتونس 200 حاج، والجزائر 183 حاجا. وبقي إنزال 750 حاجا مغربيا. وخلال المسيرة من الجزائر إلى طنجة لم يحدث ما يثير الانتباه من الناحية الصحية.

هذا هو التقرير الذي تسلمه المجلس الصحي بطنجة من قائد السفينة، والذي بناء عليه منحها حق إنزال الركاب بطنجة بدلا من توجيهها إلى جزيرة الصويرة لقضاء الحجر الصحي بها. لكن نزول الحجاج اقترن بتسجيل وفيات غير عادية سواء بينهم أو بين سكان المدينة. فبعد نزولهم اتجه عدد كبير منهم إلى ضريح سيدي محمد الحاج، وخيم الحجاج في القرية المجاورة المعروفة بقرية بوغابة. بينما أقام آخرون منهم في السوق الكبير. وفي يوم نزولهم حدثت وفاة دون أن تثير الانتباه، وفي يوم 24 غشت أصيبت فتاة يهودية تشتغل في النواحي المجاورة للسوق، وتوفيت بعد ثلاثة أيام وقد ظهرت عليها الأعراض المميزة للكوليرا. ثم تواصلت الإصابات إلى نهاية غشت دون أن يظهر أي قلق داخل المجلس الصحي. وفي بداية شتنبر ارتفعت الوفيات في قرية بوغابة بشكل ملحوظ، وقرر المجلس إذاك الاعتراف رسميا بوجود الكوليرا بالمدينة.

مع ذلك ظلت الآراء متضاربة بخصوص طبيعة الوباء، ولم يتمكن الأطباء الأجانب المقيمون بالمدينة من حسم الموقف، لذلك جرى إرسال أجزاء من الأمعاء والمرارة من جثة أحد الضحايا في قنينة إلى أحد المختبرات بمدريد. وفي الوقت عينه جرى استدعاء الطبيب الفرنسي سوليي، نائب مؤسسة باستور بالجزائر، الذي اهتم خلال إقامته بطنجة في بداية أكتوبر بتحديد طبيعة المرض وأصله وتوضيح التدابير اللازمة لمكافحته. أعد هذا الطبيب الفرنسي تقريرا بناء على ملاحظات سجلها على المصابين الإسبان واليهود، أما المسلمون فكانوا على حد قوله يتمنعون عن تلقي أي زيارة لهم مما جعل من المتعذر عليه التعرف بدقة على طبيعة المرض المتفشي فيهم. وأكد أنه لا جدال بأن الوباء الذي أصاب عددا كبيرا من السكان هو الكوليرا. فالمرض يبدأ فجأة في أغلب الحالات بإسهال خفيف، وغثيان، ووجع في الرأس، ثم يأخذ المريض في التغوط كثيرا، ويكون برازه سائلا، شبيها بمرقة الأرز، ويليه تقيؤ غزير، ويشعر المريض بعطش شديد، ثم تسوء حالته فتخفق دقات قلبه وتنخفض درجة حرارة جسمه وييبس جلده ويزرق ويبح صوته، وتغور عيناه، وتصبح حالة المريض حينئذ بالغة الخطورة ويخر على إثرها. وهذه لوحة مختصرة لحالة مرضية عنيفة كما لاحظها الطبيب سوليي.

لكن هذا الطبيب نفى أن يكون الحجاج هم من جلبوا الوباء، قائلا: « إننا لا نعرف حتى تاريخ ظهور الوباء، ولا من هم المرضى الأوائل، وكل ما يمكن قوله في هذا الصدد أن الحالات الأولى سجلت بين سكان قرية بوغابة الذين لم تثبت مشاركتهم في الحج ». كما أشار إلى أن الحالة الصحية في مكة كانت جيدة سنة 1895، وأن الحجاج المغاربة كانت حالتهم الصحية حسنة. لكن مع ذلك، فإن تزامن ظهور الوباء مع وصول الحجاج إلى طنجة، يطرح تساؤلات مشروعة. وعموما، فإن الوباء كان خفيفا في طنجة مقارنة مع وباء 1878، وأقصى ما بلغه عدد الضحايا هو 14 ضحية في اليوم في 4 شتنبر، ثم ارتفع إلى 20 في أكتوبر. أما مجموع الضحايا فبلغ، منذ 12 غشت إلى انقطاع الوباء، 700 ضحية من ساكنة تقدر بـ40 ألف، منها 7000 مسيحي و9000 يهودي، أي بلغت نسبة الضحايا 2 في المائة. ومن طنجة وصل الوباء إلى مدن أخرى في الشمال مثل تطوان، ثم إلى العرائش والقصر الكبير، ثم جنوبا إلى فاس والرباط، والشاوية.

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي