-->

مهاجرون أم شتات؟ تركيب استراتيجي للعلاقة بين المغرب ومغاربة العالم– الحلقة 1

16 يوليو 2020 - 07:00

يثير قرار الحكومة تقليص حركة السفر إلى المغرب عبر شركتي الخطوط الملكية المغربية والعربية للطيران ومينائي « سيت » في فرنسا و »جنوا » في إيطاليا مشاعر الحنق لدى جل مغاربة العالم بسبب ما يعتبرونه ابتزازا ماليا وعبيثة بيروقراطية. ويجسد هذا القرار تعثرا إضافيا لدى الرباط في إدارة قضية العالقين في الخارج والداخل منذ تفشي جائحة كورونا قبل أربعة أشهر، وتعكس أيضا منحدرا غير مسبوق في علاقتهامع مغاربة العالم بموازاة وجود وزارتين ومؤسستين ولجنة وزارية تلوحان بالإشراف على « مصالح » الجالية المغربية. وقبل أيام، ألقى الدكتور محمد الشرقاوي، أستاذ النزاعات الدولية في جامعة جورج ميسن في واشنطن وعضو لجنة الخبراء في الأمم المتحدة سابقا، محاضرة في ضيافة التجمع الوطني للأحرار قدم فيها تقييما نقديا لعدة قضايا عالقة منها قضية الهويات الجمع المتحركة وليس الهوية القارّة من وراء « عمالنا المقيمين في الخارج » أو « المغاربة المقيمين في الخارج، وموقع مغاربة العالم من نظريات الهجرة ونظريات الشتات، وسردية « الرعية » وسردية « المواطنة »، وتحوّل المشاركة السياسية لمغاربة العالم إلى « نية موقوفة التنفيذ »، وافتقار الأكاديمية المغربية لسوسيولوجيا الهجرة والشتات. وتنشر « أخبار اليوم » نص المحاضرة ضمن أربع حلقات.

 

« مغاربة العالم »: سؤال الهوية والتركيب الذاتي لهويات مزدوجة!

أتناول اليوم محورا ينمّ عن عدد من المفارقات التي تُلحّ في راهنيتها وتكشف تقاطعات عميقة مع قضايا كانت عالقة قبل حقبة كورونا، وتتعزّز باستمرار الجائحة وتزداد أهميتها عند التخطيط لتنظيم الانتخابات المرتقبة عام 2021 إذا ظلّت في موعدها، وتستدعي الحسم فيها باعتبارها قضايا مفتوحة أمام المغرب الرسمي قبل الشعبي وأمام مغاربة العالم في كافة جغرافياتهم وخياراتهم وانتماءاتهم السياسية ومشاربهم الفلسفية. أجدني بذلك أمام مسؤوليتيْن متوازيتيْن: مسؤولية أكاديمية أو مسؤولية البحث العلمي في تحديد سبل واقعية وواعدة لتفكيك العلاقة بين المغرب ومغاربة العالم وتركيبصلة استراتيجية منتجة وليست مجرّد التغنّي بالرّوابط النوستالجية والروح الوطنية، وأيضا مسؤولية شخصية لاستنباط خلاصات لا أريد أن تغلب عليها النزعة الذاتية، وأنا أحد مغاربة العالم ونتاج تجربة مهنية وأكاديمية بين بريطانيا والولايات المتحدة.

في الوقت ذاته، أظلّ منفتحا على شتّى المشارب الفكرية والتيّارات الحزبية المتنافسة وإنْ ضعفت شعبية هذه الأحزاب في العقدين الماضيين بفعل ما أصبح عزوفا متزايدا لدى فئات الشباب وضجر ملموسا لدى أغلب الرأي العام من تخبط المنظومة الحزبية بيمينها ووسطها ويسارها. لكن، أتمسّك بحاجتنا جميعا في الداخل والخارج لنقاش صريح ورؤية نقدية صارمة، دون تخندق أو تعصّب ضدّ أيّ فلسفة سياسية بقدر ما أومن باحترام التعددية الفكرية والحوار المسؤول عبر مختلف المنصات. فأهلا بي وبكم في مغرب التعددية والطرح التقريضي critique باتجاه استعادة النبوغ المغربي حتى لا يحتكره جيل من الأجيال السابقة. وأتخيّل الرباط الآن وهي تخرج من رباطها، ومغاربة المعالم يتمرّدون على جغرافياتهم المتباعدة، لنلتقي في دائرة الحوار والاجتهاد المتبادل، وأنّ التوافق لا يلغي الاختلاف بقدر ما يساهم تباينُ الرؤى بين الداخل والخارج في تركيب استراتيجيات متنوّرة وواقعية.

تمثّل حقبة كورونا مرحلة غير مسبوقة وحيرة لا متناهية في تعامل الشعوب والحكومات مع الأوبئة والجائحات والركود الاقتصادي والبحث عن آليات الردع الوبائي بدلا من الردع النووي. بيد أنها تفرض تحدّيات مركّبة ومتداخلة، وتطرح أسئلة وجودية جديدة على سائر الجاليات المهاجرة بين دول العالم ومنها مغاربة العالم: ثمة سؤال المسافة الراهنة في تصوّر الرباط بين تعامل « الرعّية » إزاء أولئك المهاجرين وفلسفة « المواطنة » المنفتحة على أكثر من جغرافيا وأكثر من ثقافة؟ سؤال آخر يقتضي تحديد الخيار بين الخطاب المعياري التقليدي عملا بمقولة « عمّالنا في الخارج هم سفراؤنا » وشتّى أدبيات الدبلوماسية المغربية التي استثمرت في ثقافة الوصاية عبر السفارات والقنصليات والتكتلات الموالية لها بين المهاجرين، وخطاب الواقعية والبرغماتية من أجل تأسيس عروة وثقى بين الرباط وقرابة ستة ملايين مغربي ومغربية اختاروا أوطانا بديلة، ولا يتخلّون عن انتمائهم واستعدادهم لتسخير مهاراتهم وخبراتهم في بناء مغرب ديمقراطي حداثي ومتكافئ الفرص.

عندما يوجّه مغاربة العالم تفكيرهم نحو المغرب أو يقرّرون السفر إليه، هل يفعلون ذلك بعقولهم أو بقلوبهم أم بأيّ حافز واع أو غير واع آخر من أجل استدامة هذه العلاقة في منحاها المادّي والنفسي والمعنوي والمجتمعي؟ هم يتمسّكون ليس بثنائية الوطن أو الثقافة أو الانتماء العرقي والثقافي والحضاري بين أرض المهجر والوطن الأمّ فحسب، بل وأيضا بمواطنة عابرة للقارّات تسعى للتوفيق بين الحقوق والالتزامات والمبادئ والقيم المتداولة في سياق عالمي. في الأمس القريب، ظهر منصف السّلاوي في باحة البيت الأبيض ليتولّى مسؤولية البحث عن لقاح جديد ضد وباء كورونا، وبدأ اللغط بشأن ما وصفته السناتور « إليزابيث وورن » بأنه « تضارب جسيم في المصالح »، بالنظر إلى علاقته بشركة موديرنا  Moderna التي كان يعمل فيها وهي من بين المؤسّسات التي سيعوّل عليها في تصميم لقاح جديد. صحيفة « إنسايدر بيزنس » التي نشرت الخبر عرّفت السلاوي بأنه مواطن « أمريكي بلجيكي ». فاشتعل السجال العاطفي للدفاع عن « تمغرابيت » السلاوي إما بفرضية الجينات أو الحامض النووي المغربي في جسده أو فترة طفولته في المغرب وسائر التركيبات المختلفة للتشديد على أن السلاوي مغربي أوّلا وأخيرا.

فكيف ينظر المغرب الرسمي إلى هذه المواطنة المرنة، أو مواطنة « هنا وهناك »، أو « مواطنة بين المنزلتين » لدى مغاربة العالم؟ وقد أثارت حقبة كورونا استفسارات جديدة إزاء وضعهم عامة ووضع العالقين خاصة في القاموس السياسي المغربي. سواء كنا نتحدّث عن مغاربة العالم باعتبارهم مهاجرين أم نازحين أم شتاتا أو أي تصنيفات دلالية أخرى، هل هناك جالية متجانسة واحدة خارج الحدود، أم هي مجتمعات فرعية متناثرة في العالم خلال عام 2020 مثلا؟ وهل هناك ما يبرر احتراس المؤسسات الرسمية في الرباط وحتى بعض الأحزاب من مفهوم الشتات رغم وجوده ديمغرافيا وفكريا وسياسيا في الواقع في أكثر من دولة من دول المهجر، وقد تعزّز هذا التحوّل بفعل انتفاضات عام 2011، أو حراك الريف عام 2017، وأيضا تدني مستوى احترام الحريات العامة في المغرب في الأعوام الأخيرة. إذن، ثمة مخاوف مستدامة من حقبة السبعينات ومن الوصمة التي لحقت نشطاء اليسار المغربي خاصة في فرنسا. في المقابل، نلاحظ أن دولا أخرى مثل الصين وروسيا وإيطاليا وتركيا والبرازيل والولايات المتحدة تحتضن مفهوما إيجابيا للشتات، بل وتستثمر فيه سياسيا وثقافيا وحتى ماليا، إلى حد أن بعض المؤسسات الصينية الرسمية تتعّقب أثر الكفاءات الصينية في أوروبا والولايات المتحدة، وتنظّم لها طريق برواتب حسب المقاييس الأوروبية والأمريكية وليس حسب مستوى المعيشة داخل الصين. وتشمل هذه المؤسسات هيئات حكومية وشبه حكومية تعمل على عدة مستويات وطنية ومحلية ضمن ما يسمى « البنيات الصينية الخمس وراء البحار » wuqao للربط بين القطاعين العام والخاص والكفاءات الصينية في الخارج من خلال التنسيق مع وزارة الخارجية الصينية، وهي مجلس الدولة للشؤون الصينية في الخارج، ولجنة الشؤون الخارجية لدى حزب الشعبي الوطني، وفيدرالية كل الصين للصينيين العائدين من الخارج وغيرها.

لم يكن بإمكان الهند مثلا أن تصبح قوة تكنولوجية عالمية لولا الاعتماد على بعض شتاتها العاملين في الشركات التكنولوجية في « سيليكون فالي » في كاليفورنيا عاصمة التكنولوجيا. ويزداد عطاء الكفاءات الهندية ليس في بلورة سوق خدمات مزدهر لعدد كبير من الشركات الأمريكية والبريطانية ضمن ما يعرف بعملية التوظيف عن بعد outsourcing فحسب، بل وأيضا في تعزيز مرتبة الهند في مجال الذكاء الاصطناعي وتحليل المعطيات الكبرى big data analytics. وأصبحت مدينة بنغالور إحدى أهم المراكز التكنولوجية، بل تجاوزت وضع سيليكون فالي إلى المرتبة الأولى عام 2017 باعتبارها أكثر المدن ازدهارا في الصناعات التكنولوجية. واستطاعت الهند تحسين مرتبتها في مؤشر الابتكار العالمي Global Innovation Index من المرتبة 81 عام 2015 إلى المرتبة 52 عام 2019. ويعوّل رئيس الوزراء الهندي على هذه الخبرات في الخارج والداخل للوصول ببلاده إلى تحقيق اقتصاد قائم على خمسة تريليونات دولار بحلول عام 2024.

ثمة استفهام عالق آخر منذ خمسة عشر عاما: ما هي الخلاصة الحقيقية لمبدأ « المشاركة السياسية » لهؤلاء المغاربة خارج الحدود منذ إقرار النية بشأنها ضمن الخطاب الملكي في السادس من نونبر عام 2005، وأيضا ما سطّره الفصل 17 في دستور عام 2011، وأين تقف الأحزاب والمؤسسات المختلفة إمّا من إشراك أو استبعاد نسبة خمسة عشر في المائة من المغاربة من صناديق الاقتراع وبالتالي تركيبة البرلمان عند أي عملية انتخابية في المستقبل؟ منذ عامين، ازداد تلويح الرباط بضرورة الانفتاح على الكفاءات المغربية في الخارج وإشراكها في البناء الداخلي. لكن السؤال العالق: ما هي الخطوات الإجرائية للتمهيد لمساهمة هذه الكفاءات المهاجرة فعليا ونقلها ذهنيا وعمليا إلى الواقع الجديد، أم أنه يظل خطابا معياريَ في الطرح ودبلوماسيَ في المقاصد؟ هل هناك جغرافيا معرفية للخبرات أو الكفاءات المغربية؟ قبل أيام، شدّدت كوثر الحافظي، رئيسة قسم أبحاث الفيزياء النووية في جامعة أوريغون الأمريكية، أنها لن تجازف بالعودة إلى المغرب والتخلي عن أبحاثها ومختبرها على خلاف باحثين آخرين قرروا العودة من كندا، وكما تقول « كلاو العصا، وتهرسو »، بسبب التداخل بين السياسة والبحث العلمي، وتتمسك بالقول إن التقدم « منظومة متكاملة تتجاوز الحاجة لتجهيزات أو مختبرات »، وهي تبدي الاستعداد للتعاون عن بعد.

تطول قائمة الأسئلة في المرحلة: هل هي نعمة أم نقمة أن يتوزّع ملف مغاربة العالم بين ستّ مؤسّسات رسمية في الرباط: 1) وزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، 2) الوزارة المنتدبة المكلفة بالمغاربة المقيمين في الخارج، 3) مؤسسة الحسن الثاني للمغاربة المقيمين في الخارج، 4) مجلس الجالية المغربية بالخارج، 5) اللجنة الوزارية لشؤون المغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة التي عقدت اجتماعها الثامن في العاشر من يوليو الجاري بحضور رأس رئيس الحكومة، السيد سعد الدين العثماني، و6) بعض الجهات التي تعمل من وراء ستار وتتأرجح بين مسعى احتوائهم أو استبعادهم، أو شيطنة بعضهم، إذا استعرضنا حصيلة العقود الخمسة الماضية منذ تأسيس « الوداديات » في فرنسا وبلجيكا وهولندا بعد 1973، وكيف أصبحت رؤية الجيل الثاني والثالث بين مغاربة العالم الآن إلى العلاقة مع المغرب جملة وتفصيلا؟ فمتى يتوافق المغرب الرسمي ومغاربة العالم، ومتى يختلفان في تحديد معضلات الحاضر وسبل المساهمة في البناء الاقتصادي والفكري والسياسي للمستقبل؟ وماذا تُخفي عبارة « مغاربة العالم » من فئات فرعية وبين من يُعدّون مهاجرين مؤقتين أو متجنّسين مقيمون إلى الأبد في دول المهجر، أو شتات متناثر في العالم، أو كما قال أحد الأصدقاء الفيسبوكيين « قلّة من المهاجرين وكثير من الشتات أو المنفى. »أحد الزملاء في جامعة عبدالمالك السعدي في تطوان الدكتور محمد حيتومي يحفّزني على إثارة ما يعتبره « مطلبا تأسيسيا » حول مدى فعالية استعمال وتوظيف مفاهيم الشتات والمهاجرين ومغاربة العالم، ويسأل ألا يجدر بنا استعمال « مفهوم مهاجر من أصول مغربية »؟ وما هو « موقع الفعل » الممكن للمهاجرين من أصول مغربية في التركيب الاستراتيجي المحتمل؟

ما هي الأرضية المعرفية التي يستند إليها البحث العلمي المغربي في مجال الهجرة والشتات؟ ولماذا تظلّ في أغلبها حبيسة الدراسات الاقتصادية والقانونية والجغرافية؟ ثمة معضلة معرفية أخرى تتجلى في انعدام التوزان في الأبحاث الخاصة بمغاربة العالم بين منطلق دراسة الهجرة على حساب دراسة الشتات بمنطلق « ديسبوري » قائم بذاته مقارنة مع دول أخرى. ولا يزال هناك اختلال صارخ بين دراسة الهجرة المغربية في الغالب برؤية من الداخل وشبه غياب للدراسات السوسيولوجية لدراسة الشّتات المغربي برؤية من الخارج، باستثناء بعض الدراسات الأدبية للإصدارات القليلة في هولندا وفرنسا والولايات المتحدة. وتظلّ محاولة إسقاط الرؤية الأولى على الثانية قاصرة في البحث العلمي إنْ لم تكن شبه عبثية.

سأركّز على ستّة تحديات رئيسة تفرض نفسها الآن، عند السعي لبلورة علاقة استراتيجية بين المغرب ومغاربة العالم ليس كرأسمال اقتصادي فحسب، بل وأيضا كرأسمال معرفي وكرأسمال سياسي يستطيع المساهمة في المصالح العليا للمغرب في شتى العواصم المؤثرة في توازن القوى والسياسة الدولية. وتتباين هذه التحديات بين ما هو بنيوي إداري، وما هو إبستمولوجي معرفي، وما هو وظيفي استراتيجي.

يكمن التحدي الأول في مدى اعتبار مغاربة العالم امتدادا لهوية قارّة أم ينبغي أن ننفتح على اعتبارات ظلّت مغيبة في الخطاب الرسمي لسبب أو لآخر؟ أمّا التحدي الثاني، فيتجلى في سؤال أين موقع مغاربة العالم من نظريات الهجرة ونظريات الشتات في الدراسات السوسيولوجية الدولية؟ التحدي الثالث: مدى التوفيق أو التباعد بين سردية « الرّعية » وسردية « المواطنة » في الصلة المفترضة بين المغرب ومغاربة العالم. أما التّحدي الرابع، فينطوي على تحديد النخبة بين مغاربة العالم وما السبيل لتمثيلهم سياسيا ومدى مساهمة الكفاءات أو الخبرات المغربية في الخارج في المحصلة النهائية. التحدي الخامس مدى توافق أو تنازع الاختصاصات لدى الوزارات والمؤسسات التي ترفع شعار خدمة قضايا مغاربة العالم. والتحدي السادس: تعثرالجامعة المغربية في بلورة معرفة سوسيولوجية بمنطلق من الخارج إلى الداخل وليس بالضرورة من الداخل إلى الخارج.

التحدي 1: سؤال الهويات وليست الهوية المفرد!

في بداية الستينات، بدأت الرباط تنعتهم بعبارة « عمّالنا في الخارج »، وكانت وزارتا الخارجية والشغل في الرباط تتابعان أوضاعهم بفرضية أنهم « فئة محمية » قانونيا في دول المهجر وفقا عقود العمل المبرمة التي أبرموها. فأقيمت فروع البنك الشعبي داخل القنصليات أو حولها من أجل تسهيل تحويل مدّخراتهم إلى المغرب. لكن في الثمانينات، انفتح هؤلاء المغاربة النازحون على العمل في مقاولات وقطاعات خدمية بدل الاستكانة في أقنية المصانع، فتغيّر النعت إلى « عمّالنا وتجارّنا في الخارج »، قبل أن يجود الخطاب الرّسمي بعبارة « المغاربة المقيمون في الخارج » كصيغة إجمالية لم تعد تركّز على أنهم مجرد أيدي عاملة لا تستحضر صورة من يعملون بأدمغتهم وليس مجرد عضلات أيديهم. غير أنّ تحوّلا مهما في سيميائية الخطاب طرأ عام 1989 عندما بدأ تداول عبارة « مغاربة العالم » كمظلّة لغوية أنيقة المنحى فضفاضة المعنى.

يُمثل هذا النعت الجديد انقلابا على إرث الدّلالة الكلاسيكية لمفهوم « عمّالنا في الخارج »، الذين سعت الدولة لتوجيههم ورصد توجّهاتهم من خلال « الوداديات » في أوروبا في السبعينات والثمانينات. قد يكون وصفا ينطوي على بعض اللباقة السياسية ومحاولة تجاوز القصور في منحييْن أساسييْن: أوّلا، تردّد المغرب في تحديد تصوّره لحقيقة نموّ الجاليات المغربية بمن فيهم الجيل الثاني والثالث، وأحيانا الرابع، من المغاربة الأوروبيين والمغاربة الأمريكيين وغيرهم. هم يُشكلون نواة شتات قائم بذاته من خلال الهوّيات المزدوجة بين البلد الأصل وأرض المهجر وتصوّراته للعالم وتطلّعاته العابرة للحدود. هناك عدة فرضيات متداولة حول الهجرة ومغاربة العالمتستدعي إعادة النظر في وحدة التحليل الأساسية المفترضة في تفكيك العلاقة. ولا يزال الخطاب الرسمي يعتدّ بعنصر الارتباط بالدّم والنّسب والهوية لديهم، ودعوة عدد منهم سنويا لحضور احتفالات عيد العرش، وبرامج الجامعات الصيفية المغربية التي ترعاها الدولة كأداة لتعبئة شباب المهاجرين.

قبل عامين، كان مغاربة أوروبا أكبر مجموعة من بين 800000 من المهاجرين الذين حصلوا على الجنسية في البلدان الأوروبية. ووفقًا لإحصائيات مؤسسة يوروستات Eurostat، كان 67900 شخص منهم أو 83٪ ممن حصلوا على الجنسية الإيطالية أو الإسبانية أو الفرنسية مغاربة، فجاءوا في مرتبة قبل مواطني ألبانيا والهند. واحتل الأتراك المرتبة الرابعة، يليهم المجنسون من رومانيا وباكستان وبولندا والبرازيل. إذن، من هم حقيقة بين تصنيفات « مغاربة العالم » القادمة من الرباط وبقية التصنيفات المحلية في دول المهجر مثل »مغاربة أمريكيين »، أو « مغاربة أوروبيين »، أو « مغاربة أيفواريين »، أو حتى « أستراليين من أصل مغربي »؟ وإلى أين هم ذاهبون بهذه الهويات المزدوجة أو Hyphenated names والثقافات المركّبة والرؤى العالمية التي تتجاوز جينات الدم أو حدود الأرض أو نقاط الجمارك أو ختم الجوازات؟ قبل سبعين عاما، كتب الروائي البريطاني الساخر جورج أورويل عبارة مثيرة في معناها ومغزاها قائلا إن « أسوأ شيء يمكن للمرء أن يفعله بالكلمات هو الاستسلام لها »، وأضاف أن على المرء « السماح للمعنى باختيار الكلمة، وليس العكس ». أستحضر مقولة أوريل للتمهيد لاستعراض الفرق بين أن يُسقط المغرب هوية واحدة على قرابة 6 ملايين موزعين بين مائة دولة وفي أعمار ومستويات تعليمية وتجارب حياتية مختلفة، هي هوية تدخل في تركيبها عدة عناصر عرقية ولغوية وثقافية يفترضه المغرب ومنها الاعتداد بما يسمى في الأدبيات « الثوابت والمقدّسات »، وبين أن يساهم هؤلاء المغاربة النازحون في تحديد هويتهم وخطابهم بشكل غير ملائم.

سؤال الهوية في نظري ينمّ عن أربعة أبعاد متزامنة ومتحرّكة بين التّلويح بهويات متوازية بمعناها الثقافي والسوسيولوجي في وقت ومكان معين وفق نظرية الهوية theoryIdentity ضمن كتابات الأوائل مثل هنري تاجفيل وجون ترنر من جهة، والتركيب الذاتي لهذه الهويات أو Self-identification بشكل يرفض الجمود أو الاستكانة من جهة أخرى. هناك الهوية الأصلية أو الوطنية التي يُسقطها المغرب على من يقيمون في دول أخرى ولا تسقط عنهم الجنسيةُ المغربية، وهناك أيضا هوية المواطن المجنّس التي تحدّدها ألمانيا أو فرنسا أو الولايات المتحدة أو غيرها من دول المهجر مثلا لهؤلاء القادمين من المستعمرات القديمة أو من وراء البحار. لكن هناك هوية ثالثة يتمسّك بها هؤلاء المصنّفون ضمن خانة مغاربة العالم عند التعامل مع المغرب الوطن الأصل وهي هوية مزدوجة بين هنا وهناك داخل المغرب، وهناك أيضا هوية رابعة عند تأكيد حقوق المواطنة لديهم خلال وجودهم في دول المهجر. المهمّ أن هذه الهويات الأربع تنبني جميعها على بنائية اجتماعية وذهنية ودلالات نفسية واعتبارات قانونية وسياسية متحرّكة. وكما يقول عالم النفس الاجتماعي البريطاني بيتر وينريش Peter Weinreich إن هوية الشخص تُعرّف بأنها « مجمل التفسير والتركيب الذاتي للمرء، إذ تعبر كيفية تفسير المرء لنفسه في الحاضر عن الاستمرارية بين الكيفية التي يفسر بها من كان في الماضي وكيف يفسر ما يطمح إلى أن يكون في المستقبل ». هكذا تحمل الهوية العرقية أو الإثنية لمغاربة العالم مجمل التفسير الذاتي لديهم لتلك الأبعاد التي « تعبّر عن الاستمرارية بين مفهوم الفرد لسلفه السابق وتطلّعاته المستقبلية ضمن دائرة الانتماء العرقي ».

شارك المقال

شارك برأيك

Laisser un commentaire

Votre adresse e-mail ne sera pas publiée. Les champs obligatoires sont indiqués avec *

التالي